عندما يغيب القمر عن ليالي الحصار

محمد علوان7 أبريل 2020آخر تحديث :
محمد علوان

الساعة السادسة مساء في ليلة شتاء ماطرة.. كنت أجلس وحيداً في بيت المزرعة.. أنتظر شروق شمس الغد.. ليأتي الفلاح ويبذر لي الأرض بالقمح و يحرثها، النسمات الباردة تتسلل من بين شقوق الحيطان ولا شيء يؤنس وحدتي سوى هاتفي الجوال الذي يصرخ بي” البطارية ضعيفة ..أريد كهرباء” فأقول له لا يوجد .. فيصمت.. ثم ما يلبث أن يكرر الطلب.

للتو انتهيت من تناول حبات البطاطا المسلوقة وهممت بصناعة إبريق من الشاي وما أن شربت أول كوب حتى بدأ شيء يؤلمني داخل فمي و كأنه يدق علي ناقوس الخطر … “لن تمضي هذه الليلة البائسة على خير، إنه أحد أضراسي بدأ يشتعل كبركان يثور بشكل تدريجي”، حاولت التفكير بأشياء أخرى لألهي نفسي عنه، وأخذت أشرب الشاي وأشعل لفافات التبغ واحدة تلو الأخرى.. فعلاً تحسنت الأمور.. لقد خف الألم قليلاً، أعدت الثقة إلى نفسي وكأنني قد انتصرت قبل بدء معركة سأخسرها فيما لو بدأت.

مر الوقت طويلاً … الساعة التاسعة ليلاً .. لا صوت في الخارج إلا صوت نباح الكلاب التي تنذر بقدوم عاصفة قوية، وصوت صفير الرياح العاتية عندما تضرب جدران بيتي المستسلم لكل ظواهر الطبيعية فلا أعمدة له و لا غطاء إسمنتي يقف في وجه حبات المطر ، الألم بدأ بالظهور مجددا أقوى من السابق، بدأت استشعر بمصيبة سوداء تماما كالليلة التي أعيشها، موجات الألم بدأت تنتشر من ذلك الضرس المشتعل إلى كامل أنحاء جسمي كتيار كهربائي يقوى حيناً و يضعف حيناً ولكنه يستمر … قدرتي على التحمل بدأت تخف و صبري بدأ ينفذ، تذكرت أنه في أحد أدراج الخزانة الحديدية يوجد حبتين أو ثلاث حبات من البروفين المسكن ، ذهبت مسرعا إلى الدرج فوجدت علبة الدواء فارغة من كل شيء إلا من ورقة الإرشادات الطبية، المصيبة أصبحت حقيقة و الساعة تقترب من إعلان منتصف الليلة، عدت للتفكير بطريقة ما أخفف فيها من شرارة الألم التي تضربني كصواعق الرعد التي تنزل من السماء، لم أعد أحتمل ..تذكرت ما قاله جاري لأحدهم عندما اشتكى من ألم ضرسه ، فنصحه بأن يضع عليه نقطة من زيت الفرام لتسكين الألم ….حسنا …لا أملك زيت فرام ولكن لدي دراجة نارية فيها زيت معدني … ويجب أن يحقق ما يحققه زيت الفرام من نتائج طبية فخصائص الزيتين واحدة من الناحية الفيزيائية.

ذهبت مسرعا إلى دراجتي النارية وأخرجت شيئا من زيت ماكينتها ومسحت به على كامل أضراسي في الجهة التي يصدر منها الألم، و انتظرت أترقب النتيجة..إنها كارثية، فثمة هناك من يرمي قنابل يدوية داخل فمي دون شفقة أو رحمة، وموجات الألم التي كان ينشرها الضرس اللعين في جسمي أصبحت زلازل و براكين، استنفدت كل الحلول في بيتي البائس و الوضع بات بحاجة للتفكير بحلول خارج البيت.

الطرقات المؤدية إلى البيت كلها ترابية وموحلة و ليست سالكة إلا للمروحيات، وأقرب أصدقائي يبتعد عني مسافة ألف متر تقريبا …و لكن لا حل سواه، حزمت وجهي بكل قطع الصوف المتوفرة كي لا تتسرب أي نسمات باردة إلى ضرسي المتوهج فتزيد من توهجه، وأشعلت ضوء قداحتي الخافت وانطلقت، المطر يهطل بغزارة و لا شيء في طريقي سوى الصخور السوداء المغتسلة بمياه المطر، و نباح الكلاب في كل مكان، أصبحت على بعد 200 متر من بيت صديقي، أطفأت ضوء قداحتي الخافت … حسب القانون الذي وضعه لزائريه …فقد أصبحت مكشوفا على قناصي العدو و انتهى حقل الزيتون الذي كان يستر الضوء عنهم، انتظرت قليلا ريثما توسعت حدقية عيني لأستطيع متابعة السير في الظلام الدامس وأميز خيال الأشياء في دربي، وعندما وصلت إلى بيته المطرز بطلقات الدوشكا …”فلا شيء يفصل بيته عن قوات النظام سوى نهر العاصي الطافح بالمياه مما جعله هدفا شبه يومي لهم”.. بدأت أصرخ عليه ….خرج و نظر إلي والخوف و القلق يرتسمان على وجهه …فمجيئي في هذه الظروف و هذا التوقيت يعني أني أحمل له مصيبة على شكل خبر، قال لي : خيراً إن شاء الله… ما الذي جاء بك الآن، قلت له ضرسي

دخلنا … بدأ يبحث لي عن دواء في صندوق حديدي أسود ممتلئ بالأدوات الزراعية والبراغي والقطع المعدنية المتآكلة من الصدأ، فأخرج ظرفاً من الدواء و بدأ يحاول قراءة ما كتب عليه قائلاً: هذا الدواء هنا من قبل الثورة و لا أدري ما هو و لأي، التقطت منه الظرف وبلعت حبتين و انتظرت دون نتائج تذكر، فالألم مستمر بأعلى مستوياته، قال لي الثوم مفيد لألم الأضراس فجلب لي رؤوس فارغة من الثوم و بدأ يبحث فيها عن جزء ممتلئ أضعه على ذلك الضرس الملتهب ولكن كل ذلك دون جدوى.

عدت إلى البيت بعد أن أضفت الخيبة إلى قائمة الألم و اليأس و نفاذ الصبر ، اقترب بزوغ الفجر، فقدت القدرة على الشعور بأي شيء حتى بالألم، بدأت الأفكار تتزاحم في رأسي بشكل عشوائي … متى يسقط هذا النظام …هل سيأتي غدا الفلاح في هذا المطر ….هل انتظره ليلة أخرى …متى سينتهي الحصار … لماذا جدي بنى هذا البيت هنا كشعرة يتيمة في رأس أصلع …ماذا لو زرعنا القمح و أحرقته قوات النظام بالقذائف قبل حصاده بقليل كما تفعل كل عام … أين ، ماذا ، سوف؟ ….طلع الفجر بعد طول انتظار، قررت أن أول اجراء يجب فعله هو قلع ذلك الضرس، فذهبت إلى أحد أصدقائي في بداية الطريق المعبدة و أخذت دراجته و ذهبت إلى أول طبيب، دخلت إلى عيادته …فلم أجد أحدا عنده، جلست على كرسي العلاج، قلت له: ضرسي لم يجعلني أنام الليلة الماضية
أجاب: يجب قلعه
قلت: اقلعه
أجاب: لا يوجد بنج، “لم أملك القدرة على أن أقول له أقلعه دون بنج فنتيجة ذلك ستكون كارثية أكثر من الليلة ذاتها”.

فاستقليت الدراجة وبدأت أبحث عن طبيب غيره…

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل