عن سجن يدعى التوحد

إيناس عوض2 أبريل 2020آخر تحديث :
إيناس عوض

إن كنت أما محظوظة لطفل مصاب بالتوحد، سأخبرك بعض الأمور التي تمنيت لو أخبروني بها ولم أجدها في الكتب، بداية أتمنى أن لا تظني أنني أما عظيمة كي أتجرأ وأقوم بإسداء النصح، لم يحصل ابني على درجات عالية، لم يشف ويصبح معجزة بعد، لايزال أمامنا الكثير من العمل ولكنني سعيدة بكل ما استطاع إنجازه حتى الآن.. يا عزيزتي أنا مثلك أتكلم من القاع، من الحيز غير المرئي حيث لا يرانا ولا يفهمنا أحد، حيث نهرب من نظرات الاستعطاف ونجد نعيمنا بعيدا عن تنمر الناس وسخريتهم ونظرتهم ﻷطفالنا كمخلوقات فضائية غريبة مسجونة داخل سجن كبير يسمى: التوحد.

أولا: تدركين جيدا أن طفلك لا يجيد الدفاع عن نفسه.. طفلك الصادق الذي لا يعرف الكذب بمواجهة عالم متلاعب وملون ومليء بالخداع والأقنعة، وهولا يجيد ارتداء أي قناع، أنت منذ لحظة معرفتك لتشخيصه بالتوحد، أصبحت محامية الدفاع عنه، تأكدي تماما بأنه بريء واجهدي نفسك بالبحث عن أدلة براءته، في الأخطاء الصغيرة التي يرتكبها الصغار، جميعهم يجيدون اختلاق الاعذار، يجيدون الاعتراف والتبرير، والمراوغة، لكن طفلك لا يعرف كيف يحتال ولا كيف يتلاعب بعاطفتك.

ثانيا: المجتمع يضع لنا معاييرَ محددة للشخص الطبيعي، لكن أطفالنا يتصرفون تصرفات نمطية تشعرهم بالراحة، فارتعاشة ودندنة أصابعه، وإيماءة رأسه، وأصواته المتكررة بالريتم والوتيرة ذاتها.. هذه التصرفات التي تبدو مستهجنة، تشعر أطفالنا بالراحة، وهنا سوف تخوضين صراعك الذاتي، بين أن تجعليه مقبولا وطبيعيا وتضطرين هنا لإسكاته وتوبيخه، فتقطعين راحته وسيزداد توتره وغضبه، ومن أجل من؟ من أجل أن يبدو طبيعيا ويتناسق مع تعريفنا للتصرفات الطبيعية! سأقترح عليك عندما يحدث ذلك يا عزيزتي أن تهدئي من روعك ولا تقلقي عندما يتصرف بغرابة، وأن تجربي نسف هذه الثوابت، وتؤمني بأن وجوده المختلف أمر طبيعي أيضا، إن متلازمة أسبرجر تعني أن يتصرف الطفل بنمطية مكررة، ستحتاجين لبذل الجهد ومع الوقت سيتحسن لكن، أثناء ذلك لا تشعري بالرثاء لنفسك عندما تفشلين في تدريبه ولا تستسلمي، كوني قوية وحسب!

ثالثا: عندما تدخلين جمعيات جديدة كتب على مدخلها كلمات مثل: اضطرابات، إعاقة، احتياجات خاصة، تأخر نطق، تأهيل سلوكي، تذكري أنك هنا لمساعدة طفلك على تخطي مشكلة ما، وجود هؤلاء الأطفال بحد ذاته ليس المشكلة، بل إن وجودهم هو الاضافة المذهلة لهذا العالم، النكهة المختلفة لمذاق الحياة التي تجعلها أكثر جمالا، بيل غيتس مؤسس مايكروسفت، ستيفن سبيلبريغ الذي أخرج أفلاما عظيمة في تاريخ هوليود، إسحاق نيوتن، فان جوخ، بيتهوفن، قائمة طويلة من العباقرة والمبدعين كانوا مصابين بالتوحد، هؤلاء من تركوا بصمة مميزة في الكون وجعلوه مكانا أغنى وأجمل.. كانوا غرباء وحيدين مهمشين مستهجنين.. فواجبي وواجبك أن نهبهم القليل من السلام والمؤانسة في عزلتهم التي ينسجونها حولهم، أن نجبر الأشخاص من حولنا على احترام خصوصيتهم وتقبل غرابتهم، أن نكون جزءا من لعبتهم ورسالتهم في الحياة ﻷن الله اختارنا لهذه المهمة، نحن بالذات من بين كل أمهات العالم.

رابعا: عليك بأقصى درجات الحذر، فالدجالون وتُجَّار الخلطات العشبية والأدوية غير المرخصة، ومن يدَّعون بأنهم اكتشفوا علاجا للمرض سيرمون لك القشَّة الأخيرة التي يتعلق بها الغريق، كنتُ ضحية ﻷحد هؤلاء، ولا أعرف ما الذي دهاني عندما وثقت بهم وقمت بالغوص نحو المجهول، تأكدي بأن هذا البحر في قاعه الكثير من الغرقى وضحايا الوهم، وسطحه مليء بالقش، يصدرون المزيد من القش بدلا من صنع سفينة تنقذ أطفالنا من الغرق! فكوني حذرة ولا تقتربي منهم فمعدة طفلك ليست حقلا للتجارب.

خامسا: خذي ابنك و افتحي الأبواب المغلقة وأخرجيه إلى النور، علِّميه مواجهة الناس وعلِّميهم التواصل مع طفلك، العالم ليس مخيفا وموحشا بل هناك الكثير من الناس اللطفاء ستصادفينهم في مقاعد الحياة، في أحد أسفاري كنت وحيدة مع 3 أطفال، وابني الصغير كان رضيعا، علقت على رقبة ابني الكبير المصاب بالتوحد بطاقة تعريف (أنا مصاب بالتوحد لا أتكلم ولكنني أسمع وأفهم) ووضعت أرقام التواصل في حال حصل مكروه أو ضاع مني في المطار، ولكن ما فاجأني أن معظم الركاب ما إن قرأوا تلك العبارة حتى أصبحوا يريدون التعرف إلى ابني و يحاولون التواصل معه وإعطاءه الحلوى، العالم مكان جميل لكنه يسير وفق قوانين معينة قاسية على أطفالنا في بعض المواقف، فلنغيرها إذا.

وأخيرا، لا تبخلي عليه بعاطفتك حتى لو لم يظهر تجاوبا معك، طفلك في دهاليز صمته يحبك و يشعر بحبك، لكنه لا يجيد التعبير عن عاطفته بسبب الخلل في منطقة صغيرة من دماغه تساعده على مهارات التواصل الاجتماعي، في إحدى المرات زارتنا والدتي في الإجازة لمدة أسبوع، وقبل السفر بيوم عندما وضبت حقيبتها لتسافر، جلس ابني خالد المصاب بالتوحد بالقرب من جدته وضمَّها وهو يبكي! حتى بعد سفرها ظل حزينا ﻷيام! سيعلمك التوحد معنى الحب غير المشروط، الحب الذي يوهب للآخر ولا ينتظر مقابلا، فأنت لا تنتظرين منه علامات مرتفعة، لا تتوقعين منه ردود فعل بديهية عندما تشترين له هدية مثلا، ﻷنك تحبينه كما هو وفي كل حالاته، أحبيه في صمته وبراءته وهدوئه وغضبه وعزلته.. سيذهلك كيف أن قليلاً من الحب بإمكانه أن يغير العالم.

المصدر مدونات الجزيرة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل