تعودنا منذ بداية الثورة السورية على تذبذب الليرة السورية: خطوتان أو ثلاث للأسفل ثم خطوة للأعلى، قال البعض إنها أزمات يفتعلها نظام الأسد، وقال آخرون إنها ليست مفتعلة، ولكن النظام استطاع السيطرة عليها نوعاً ما من خلال داعميه، رغم أن المحصلة العامة هي هبوط تدريجي فقد كان الدولار بـ 50 ليرة سورية عند بداية الثورة في آذار 2011، ثم بدأت الليرة مشوار الهبوط التدريجي، فوصل الدولار مستوى 600 ليرة في عام 2016، ثم تحسن أداء الليرة قليلاً لتعود فتهبط هبوطاً حاداً في 2019 أوصلها إلى أدنى مستوى لها في تاريخها، إذ تجاوز الدولار عتبة الـ 900 وربما الـ 1000 ليرة.
لكن الملاحظ أن هذا الهبوط الحاد والسريع مختلف عما قبله وخارج عن سيطرة نظام الأسد، بل عن سيطرة داعميه وبالذات إيران.
لو عدنا بالحديث عن إيران بضعة عقود حين كان “الخميني” يحاول تصدير “ثورته” وبسط نفوذه خارج إيران سواء في ما يسمى الهلال الشيعي (امتداد إيران – العراق – سورية – لبنان)، أو الخليج العربي وجنوب جزيرة العرب أو شمال إفريقيا أو أكثر من ذلك.
الطموحات الإيرانية اصطدمت بعقبات منها الحرب مع العراق (1980-1988)، ثم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها أميركا وحلفاؤها الأوروبيون عليها، لكن الأمور تغيّرت بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بزوال نظام صدام حسين خصمها التاريخي وتسليم أميركا للعراق على طبق من فضة لإيران، ثم وقّع الرئيس الأميركي السابق أوباما معاهدة حول النشاط النووي الإيراني في تموز 2015 أفرجت بعدها أميركا عن مليارات من الدولارات التي شكلت دفعة معنوية ومادية كبيرة لإيران، كي تحقق طموحاتها وبشكل لا مواربة فيه إذ صرّح أحد قياديي إيران أن قيادته تسيطر على أربع عواصم عربية (بغداد – دمشق – بيروت – صنعاء).
نظام الأسد الذي أخّر انهياره الدعم السخي من حلفائه الإيرانيون والروس بات واضحاً أن كلفة حمايته باتت أكثر مما قدّر أولئك الداعمون.
الوضع تغيّر منذ مجيء إدارة الرئيس ترامب الذي كانت رغبته واضحة في تقليم الأظافر الإيرانية وأذرعها مثل حزب الله فبدأ بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة بل وتشديد الحصار الاقتصادي للنظام الإيراني وملاحقة شبكة حزب الله اللبناني المالية، وإدراج العديد من رجال السياسة والمال من حلفاء طهران (إيرانيين وسوريين ولبنانيين) في لائحة “الإرهاب”.
كما أن التفاهم الأميركي الروسي سمح لإسرائيل بقصف الأهداف الإيرانية في سورية، ثم جاءت ثورتا العراق ولبنان، وهما ثورتان نوعيتان إذ إن عصبهما هو شباب الشيعة الذين ثاروا على هيمنة وظلم وفساد المؤسسة الدينية الإيرانية وتوابعها – كحزب الله – والتي كلفتهم أرواحهم ودماءهم وأموالهم من غير طائل.
ويبدو أن المليارات التي كانت تدفعها حكومة العراق (بأوامر من طهران) لنظام بشار لحمايته من السقوط قد توقفت أيضاً، كما خرجت آبار النفط السورية عن سيطرة نظام الأسد وحلفائه، وأخيراً انهار طوق رجال الأعمال الأثرياء والداعمين للنظام نتيجة الضغوط عليهم ونفاذ مخزونهم من العملات الصعبة أو هروبهم.
الروس من جهتهم يُحرّكهم الدافع الاقتصادي إضافة إلى دوافع أخرى، ولا يستطيعون دعم نظام الأسد وتوريد الأسلحة والذخائر له دون قبض الثمن وبالعملة الصعبة.
كل ما يستطيع نظام الأسد تقديمه لهم من تنازلات عن الأرض لإنشاء قواعد عسكرية قدمه ولم يعد لديه ما يقدمه لهم ثمن أسلحتهم وحمايتهم له. هذه العوامل مجتمعة أدّت إلى انهيار اقتصادي للنظام وانقطاع لمعظم موارده، وبات في حكم المؤكد أن الليرة لن تتوقف عن التهاوي إلا إذا حصل تغيّر جوهري تقوده الدول الكبرى وبالذات أميركا، يحقق أهدافها.
هل سقوط نظام الأسد من تلك الأهداف؟ لم يصرّح ترامب بذلك لكن الأهداف الأميركية تقتضي إزالة وإضعاف المحور الإيراني، وبالتالي ربّما يكون سقوط نظام الأسد من تداعيات ذلك، وعلى الأغلب سيكون ذلك ضمن خطة ترضي الطرف الروسي.
انهيار الليرة السورية سيكون له تأثير سلبي على المواطن العادي الذي يعتمد دخله على الليرة بينما يعتمد مصروفه على الدولار إذ إن معظم السلع التي يستهلكها تُشْترى بالدولار. هذا التأثير السلبي يشمل الحاضنة المؤيدة لنظام الأسد التي بدأت تتفكك وترى – تماماً كالشيعي الثائر في العراق ولبنان – أن قيادته استغلته ولم تبال بمصلحته، وأنه حين تأتي المواجهة الأخيرة فسيهرب أزلام النظام الكبار ويتركون الصغار تحت الأقدام.
أحياناً يكون العلاج مؤلماً لكن المهم أن يكون فعّالاً (…) نسأل الله أن تؤتي هذه الحملة ثمارها بتغيير حقيقي في كل دول محور إيران – العراق – سورية – لبنان حتى لا تطول معاناة المواطنين هناك.
عذراً التعليقات مغلقة