استهداف “المركز العربي”.. لماذا؟

فريق التحرير12 أغسطس 2016آخر تحديث :
استهداف “المركز العربي”.. لماذا؟

أسامة أبو رشيد* أسامة أبو ارشيد
لا يهدف هذا المقال إلى الدفاع عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي يتخذ من الدوحة مقراً رئيسياً له، ويرأسه المفكر العربي، الدكتور عزمي بشارة، صاحب المواقف المبدئية في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية والعربية، والتَنْظير والعمل لها. فإنتاج المركز المعرفي والأدبي والفكري والسياسي متاح للجميع، وكذلك مؤتمراته في العواصم المختلفة مفتوحة للجمهور، وليس ثَمَّةَ ما هو سِرِّيٌ خفي في أنشطته، وأنشطة فروعه في دول عربية وأجنبية. وبالتالي، يمكن لأي شخص أن يطلع على إنتاجات المركز وأنشطته ومستواها، ويصدر حكماً موضوعياً عليها، طبعاً هذا إن اختار الموضوعية. كما أنني لا أكتب هذا المقال لرد المزاعم الكاذبة التي أثارتها إسرائيل وأنصارها، و”شبيحة” بشار الأسد، وبيادق إيران، ومعسكر الطغيان العربي عموماً، حول مؤتمر “استراتيجية المقاطعة في النضال ضدّ الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح”، والذي عقد في تونس الأسبوع الماضي. فأنا شاهد عليه، وشاركت بورقةٍ فيه، وكل ما قدّم فيه من أوراق كانت أكاديميةً لا سياسية، وهي مع الحق الفلسطيني لا ضده، مع التأكيد أنه لا يعيب المركز أبداً أن يكون منحازاً إلى قضايا أمته العربية وضميرها، وهو كذلك. أما لماذا أكتب هذا المقال، فببساطة، لأني أرى ضرورةً لأن نستوعب، نحن العرب، أن مراكز الدراسات الرصينة في الدول المتقدمة تلعب دوراً بارزاً، لا أكاديمياً فحسب، بل وكذلك سياسياً، عبر التأثير، لخدمة أجندة أوطانها وصناع القرار فيها. ولا ينبغي أن نقبل، نحن العرب، محاولات بعضهم إرغامنا على أن نكون استثناءً في هذا السياق.
في أميركا وحدها، حيث أقيم، توجد اليوم مئات مراكز الدراسات والأبحاث، بل إن كثيراً من الجامعات الأميركية، وكلياتها، تنشئ مراكز متخصصة في موضوعاتٍ معينة. طبعاً، ينسحب الأمر نفسه على دول غربية أخرى كثيرة، وإن كانت مراكزها أقل عدداً. ليست هذه المراكز كلها أكاديمية وموضوعية، بل إن بعضها محسوبٌ على المحافظين، وأخرى على الليبراليين، وثالثة على اليساريين، ورابعة على الصهاينة.. إلخ. فهي تخدم أجندة سياسية ضيقة، ودراساتها والتحليلات التي تقدمها غالباً ما تكون مؤطرة إيديولوجياً، وموجهة سياسياً. لكن هذا لا ينفي وجود مراكز دراسات وأبحاث رصينة كثيرة، تنطلق من أرضياتٍ بحثية أكثر موضوعية. وفي المحصلة، فإن أي مركز بحثي جاد، وبغض النظر عن التصنيف الذي يعمل في سياقه، يوظف باحثين ومختصين وخبراء في قضايا كثيرة متنوعة، وهو يسعى إلى تقديم تحليلاتٍ تساهم في صياغة الرأي العام، والتأثير على القرار السياسي. هذه حقيقة، وهذا هو أحد أهم أدوار أي مركز بحثي، وبغير ذلك لا يكون له دور، ولا يكون ناجحاً، والمشكلة تكون في حال خضوع مركز دراساتٍ ما لأجندة السياسي وأهوائه.
عندما تنظر إلى مراكز الدراسات الجادة والرصينة في الغرب، بل حتى في روسيا والصين (مع التفاوت هنا طبعاً)، تجد أنها إما توظف مسؤولين سابقين، أو آخرين يصلون إلى مواقع المسؤولية مستقبلاً بناء على كفاءاتهم وخبراتهم في حقول معينة. وعلى الرغم من أن الخبراء والباحثين ينطلقون من خلفيات إيديولوجية وسياسية متباينة، إلا أن ثمة معايير علمية وأكاديمية يراعونها في إنتاجهم. وليس سراً أبداً أن مراكز الدراسات المحترمة، وتحديداً في الغرب، تتنافس فيما بينها للتأثير على عملية صنع القرار، والدفع باتجاه سياساتٍ معينةٍ، يرون فيها مصالح عليا. ويكفي أن يُشار، هنا، إلى أن معهد “أميريكان إنتربرايز” American Enterprise Institute كان يوصف بعقل جورج بوش الابن، في حين أن مركز التقدم الأميركي Center for American Progress له تأثير واضح على سياسات إدارتي باراك أوباما.
إذن، المؤسسات البحثية في الدول الكبرى شريك حقيقي في عملية صياغة الرأي العام، وتوجيه أجندات الدول وخدمة صانع القرار فيها. إنها مؤسساتٌ وطنية، وأتحدث عن الجادّة والرصينة منها، في خدمة مشاريع الأمم التي تنتمي إليها، أخلاقيةً كانت أم ظالمة. ونحن العرب، كذلك، نستحق مؤسساتٍ بحثيةً وأكاديميةً محترفة، توظف خبراء ومتخصصين يساعدون في توجيه دفة مركب أمتنا التائه في وسط أمواج متلاطمة وأعاصير مدمرة. نحن بحاجة إلى مؤسساتٍ بحثيةٍ رصينةٍ تنطلق من أجندة أمتها ومصالحها، لا في حالة خصام وصدام معها، ولا هي مرتهنة لأجندة سياسية ضيقة ودنيئة.
من المعيب أن إسرائيل تنفق ضعفي ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على البحث والتطوير العلمي. فحسب تقرير صادر عن البنك الدولي العام الماضي، تنفق إسرائيل 3.93% من إجمالي ناتجها المحلي على ذلك، فكم يا ترى تكون نسبة إنفاق العرب مجتمعين على البحث والتطوير العلمي؟ لا تحسم المعارك في الميادين فحسب، بل إنها تبدأ قبل ذلك في عالم الأفكار وغرف التفكير.
يمثل “المركز العربي” أنموذجاً ناجحاً لمراكز الدراسات الجادّة والرصينة، وإنتاجه في كل المجالات التي ينشط فيها يؤكد أنه يسهم في بلورة مشروعٍ معرفيٍّ ونهضويٍّ تحرّري عربي.. يقوم على الحقائق وفهمها بشكل صحيح، متحرّر من الارتهان السياسي والإيديولوجي، ويعمل على استشراف المستقبل والتخطيط له، بناء على أرضية معلوماتية وتحليلية منطقية وسليمة.
لا يحتاج “المركز العربي” أن يعتذر لإسرائيل وأنصارها في الغرب، ولا لشبيحة الأنظمة العربية المتخلفة، لنجاح أنموذجه في هذا الفضاء من العالم، وهو طبعاً لم يعتذر، ولن يعتذر أبداً عن ذلك. أيضاً، لا يعيب “المركز العربي” أنه منتم لقضايا أمته ومصالحها ومستقبلها. صحيح أنه ليس لاعباً سياسياً، وليس طرفاً مباشراً في صراعات، لكنه يقدم الخبرات الفريدة والمعلومات الدقيقة والدراسات الموضوعية اللازمة لنهضة أمةٍ. إننا، نحن العرب، بحاجة ماسة إلى مؤسساتٍ كثيرةٍ بَنَّاءَةٍ في عالم الفكر والوعي، ذلك أن الهَدَّامينَ كثر، ولا ينبغي أن يُسمح لهم بهدم، أو حتى تشويه، لبنة تأسيس صلبة وسليمة في الجسد العربي كالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

* نقلاً عن: “العربي الجديد”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل