من الواضح لكل ذي نظر أن الشعوب العربية، أي الأجيال الشابة التي تتقدّم ثوراتها، قد دخلت في حقبة جديدة، وهي تكتشف كل يوم في ساحات المدن العربية وشوارعها مصطلحات العالم الجديد الذي تسعى إلى بنائه. وتظهر الاعتصامات السلمية هذا التغير العميق الطارئ على سلوك الأفراد وعلاقاتهم، ونوعية اللغة الحرّة الجديدة التي يعبرون بها عن أنفسهم بها، والعواطف الإيجابية البالغة التي يتبادلونها فيما بينهم، شبانا وشابات، والتفاؤل الذي أصبح يوجّه نظرهم وفعلهم نحو المستقبل، ونظرتهم المنفتحة إلى الذات والآخر، ورؤيتهم التي لا علاقة لها بأي شكل برؤية آبائهم، وحاكميهم منهم، للدين والدولة والهوية والوطنية والسلطة الأبوية والسياسية، وعلاقة الرجل بالمرأة والعكس، ودور المرأة ومكانتها الاجتماعية، للمدينة والفضاء العام، لمحيطهم المباشر وللعالم، حتى ليكاد المراقب يعتقد أن نمط الاجتماعات المعاصرة وعلاقات الأفراد الشفافة والحرّة التي تميزها قد ولدت، او أنها تولد مباشرة أمام أعيننا على شاشات القنوات الفضائية، في مواجهة ثقافة الازدواجية والمظهرية والغش والنفاق القديمة.
تظهر تجمعات الاعتصام والمسيرات اليومية انقلابا كاملا في المفاهيم وقواعد السلوك في جميع ميادين العلاقات الاجتماعية والعلاقة بين الجمهور والدولة والشعب والنخبة، والذات والآخر/ العالم. هناك احتفاء متجدّد وملتهب بالوطن، واستعادة أو انبثاق روح المواطنة المحرّمة، وانحسار واضح لمشاعر اليأس والإحباط والتشاؤم الذي جعل من مشروع الهجرة لبناء حياة فردية إيجابية ومثرية في البلدان الأجنبية الحلم الرئيس، إن لم يكن الوحيد لدى شبابٍ أقنعه انعدام الآفاق واستنقاع النظام والفساد الشامل للنخبة السياسية أنه البديل الوحيد للموت يأسا وكربا في بلدانه الأصلية. وهناك تحوّل عميق في اتجاه المجتمع ككل، واحتفاء بالآخر والاقتراب منه والتفاعل معه قلّ مثيله، بعد سواد مشاعر الخوف والتوجس والشك والكراهية في عهد الفساد والاستبداد والأنانية. وهناك عودة قوية إلى التمسك بالهوية الوطنية، بعد التعلق الشامل بثقافة العولمة الرثة والاستسلام لراحة الوصاية والتبعية. هناك إعادة اكتشاف للثقافة، للفن والأدب والفكر، وانخراط حماسي في السياسة وتصالح معها.
لم تعد الثورة منهجا للتغيير وقلب الطاولة على الطبقات الحاكمة، أو الطبقات السياسية بأكملها، وإنما أصبحت في العالم العربي، وفي لبنان والعراق اليوم، كما هي في الجزائر والسودان ومن قبل في سورية واليمن وتونس، مصهرا يمتزج فيه ويتخلق، تحت درجة حرارة عالية، شعب جديد، أي شعب موحد وقوة مستقلة وفاعلة على الأرض وصانعة للحدث، وليس زبائن لقوى ونخب سياسية اعتادت تحييده وإنكار وجوده واستخدامه لتحقيق مآربها الخاصة، وأن لديه إرادة لا تقهر لتحقيق أهدافه، وأنه السيد الحقيقي في الدولة، وصانع النظم والحكومات. هكذا سقط النظام السياسي العربي القديم بالفعل، بصرف النظر عن المآلات التي سيشهدها المشهد في الأسابيع والأشهر المقبلة، ليس على مستوى لبنان والعراق، وإنما على مستوى الشعوب العربية برمتها، وسقط معه، ودخل في مسار التفكّك والانحلال، نظام المجتمع القديم ونمط العلاقات الذي كان يميّزه على جميع المستويات المدنية والسياسية والطبقية والطائفية، ولن يكون من الممكن إعادة بعثه وإحيائه.
في المقابل، لا تزال الطبقة السياسية والنخب الاجتماعية السائدة تعيش في تاريخ آخر، وتبدو عروضها وتنازلاتها الهزيلة المقدمة لتخفيف غضب الجمهور، من تغيير بعض رجال الحكومة أو الوعد بالإصلاح القريب أو الإسراع في تقديم مكتسبات لهذه الفئة أو تلك، حركات واهية في الفراغ، لا طعم لها ولا رائحة ولا أثر. تحاول أن تكسب بعض الساعات الإضافية لاستعادة الاتصال بجمهورٍ يبتعد عنها كل يوم سنوات كاملة، وأصبح يعيش في عالم آخر لا قدرة لها على فهمه وبالأحرى دخوله. وهي عاجزة بالفعل عن فهم ما يجري لها ومعها، ببساطةٍ لأنها لا تستطيع أن تقبله، ولا تريد أن تعترف بأن دورها انتهى، ولم يبق لها إلا الرحيل، كما لا يكفّ الجمهور عن ترداده.
والدليل الأكبر على أنها انتهت وخسرت معركتها إلى الأبد شعورها العميق، بالمقارنة مع من سبقها من النظم الدموية، كنظام الإبادة الجماعية السوري، بضيق هامش مناورتها السياسي، وتردّدها في الدخول في حربٍ علنيةٍ ضد الشعب، خوفا من أن ينقلب استخدام العنف المفرط إزاء المتظاهرين عليها، بدل أن يعيد الشعب إلى مواقعه القديمة. ولم يعد يراود أحدا من رجالاتها، حتى الأكثر حمقا وعنصرية ضد الجمهور الذي وصف بالجاهل والأمي والمتعصب الديني في معظم البلدان، استدعاء جيوش ومليشيات وخبراء حماتها من الدول الأجنبية، في وقتٍ تكاد شعارات المطالبة بإخراج هؤلاء الحماة تساوي، إن لم تتفوق على، شعارات التغيير السياسي الداخلي. وكما سقطت ورقة الرهان على التدخل الإيراني، وسقطت ورقة اتهام هذه الثورات بالمؤامرة الأجنبية، أو التعبير عن تيارات محافظة رجعية ومماهاتها مع حركات التطرّف الديني أو القومي أو الطائفي، أو حتى ربطها بالإرهاب لتشويه سمعتها وتجريدها من شرعيتها وتبرير رفض التعامل معها بجدية، فقد أصبح ذلك كله من الترّهات التي تسيء إلى صاحبها أكثر مما تعينه على التغطية عن مواقفه العدوانية.
العجز عن استخدام العنف على الرغم من إرادة العنف وتوفر الوسائل لممارسته ضد المنتفضين والعجز عن استخدام ورقة التدخل الأجنبي والمؤامرات الخارجية والتلويح بخطر التطرّف الإسلامي والإرهاب، يعكس ذلك كله الانهيار الأخلاقي والسياسي الكامل لقضية النظم القائمة، ويشير إلى إدانتها التاريخية. وهكذا ستموت هذه النظم والطبقات اليوم مقهورة من دون حتى القدرة على الانتقام وتفريغ حقدها أو سمّها في الضحية. وهذا العجز هو أحد المكاسب الكبرى لتضحيات الشعوب العربية في انتفاضاتها السابقة التي بيّنت، خصوصا الانتفاضة السورية، أن الإصرار على سحق إرادة الشعب بالحديد والنار، والإمعان في احتقاره وإنكار حقوقه، لن يقود أي نظام سوى إلى خيانة شعبه مع الدول الأجنبية، والتفريط باستقلال وطنه، وتدمير عمرانه وجعله غير صالح للمعيشة والحياة. لا يمكن لحاكم أن ينتصر على شعبه، وانتصاره لن يكون سوى إنهاء للوطن والشعب وفتح الطريق واسعا إلى الاحتلال.
انسداد طريق الحل العسكري لا يبقي مجالا آخر أمام النخب التي لا تريد أن تخسر بلدانها، وتأمل أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من مصالحها سوى التسليم بالأمر الواقع وقبول الانتقال إلى نظام جديد يرد على تطلعات الشعب الوليد وأجياله المتوثبة والمتطلعة نحو المستقبل، ويتيح لنخب جديدة أن تحتل مواقع القيادة وتتحمّل قسطها من المسؤولية في بناء المستقبل الذي تريد. برفضها التداول والتجدّد حكمت النخب القديمة على نفسها بالانحطاط، وأصبحت جثثا محنطة وحنطت معها السياسة ذاتها، فكرا وممارسة، وربطتها بهياكل حزبية وشخصيات من الماضي لا علاقة لها بالحاضر، ولا بتطلعات شبابه وحاجاته ومشاعره وأحلامه. لقد تحوّلت إلى الميت الذي يحكم الحي ويمنعه من التنفس والحياة.
لقد كذّبت ثورات الربيع العربي القول المأثور، بعد الثورة الفرنسية، إن الثورات تأكل أبناءها. ما تفعله الانتفاضات العربية، كما تبين وقائع الساحات المفتوحة في جميع العواصم العربية هو العكس تماما، أي إعادة خلق الانسان وبث الحياة والحيوية في المجتمعات الطريحة التي فتتتها وفككت عراها وشوّهت أخلاقياتها أنماط من السيطرة والحكم لا تعرف فيها النخب الحاكمة علاقة بالشعب سوى التي تربط الذئاب بالحملان، ولا تفيد فيها الدولة وسلطتها العمومية سوى في تمكين هذه الذئاب من السيطرة على الطريدة والتفاهم على تقاسم أطرافها حسب ما وهبته الطبيعة لأفرادها من شراشة وضراوة ووحشية. هكذا ينقلب السحر اليوم على الساحر، ومن رهاب الخوف تولد قوة لا تقاوم، وإرادة تفل الحديد، وتبدلت الأدوار والمواقع.
لذلك، لن يربح سياسيو العصر البائد معركتهم بالمراهنة على تمرير الوقت وتعب الجمهور وخوفه من عمليات القتل الممنهج والاختطاف والإخفاء، فحين يرمي الإنسان بنفسه في الصراع من أجل قضية سامية ترقى إلى مستوى أحلامه وتطلعاته، تصبح بالنسبة إليه بمثابة عقيدة ودين، ولا يعود للحياة عنده من دونها معنى، ولا يبقى عنده للوقت أي حساب. هذه هي الثورة، وقد جاءت اليوم أعمق بكثير مما انتظره أكبر المتفائلين. ولن يفيد تأجيل الاستحقاق الاجتماعي والتاريخي إلا في تعزيز القطيعة بين الماضي الغارب والمستقبل المنشود، وتحويل زمن الانتظار إلى فرصة استثنائية ونادرة لتعميم الوعي الجديد، وتداول الخبرة ونشر الثقافة، وإلى تمرين جماعي وشامل على ممارسة القيم الجديدة، وتمثل قواعد العمل والسلوك الإنساني، وإحياء معاني السياسة واستبطان روح المسؤولية الجماعية التي لا تقوم من دونها حياة مدنية.
خلصت يعني خلصت.
عذراً التعليقات مغلقة