لم يتمكن النظام السوري على مدى عقود من اعتماده سياسة اضطهادية رسمية مبرمجة مزدوجة ضد الأكراد، تمثلت في الحرمان من الحقوق، والتعرض لجملة من المشاريع التمييزية، من إحداث شرخ بين المجتمعين العربي والكردي مثلما هو حاصل في يومنا الراهن.
فالسياسة الاضطهادية تلك تبقى في المستوى السلطوي الفوقي، ولا تؤثر في بنية العلاقات العميقة بين الوسطين الكردي والعربي، خاصة في مناطق الجزيرة ودمشق وحلب، حيث الاختلاط السكاني، وتداخل العلاقات على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحتى على المستوى السياسي عبر الانتماء إلى الأحزاب السياسية ذاتها، لاسيما الحزب الشيوعي، ومن ثم الأحزاب الشيوعية واليسارية بتوجهاتها المختلفة.
هذا رغم أن النظام كان يحاول، بكل السبل، تفتيت النسيج المجتمعي الوطني من أجل التمكن من السيطرة على الجميع. وقد تجسّد توجهه هذا بصورة واضحة في أحداث ملعب القامشلي عام 2004، وتعامله مع الانتفاضة الكردية التي كانت احتجاجاً على إقدام عناصر النظام على إطلاق الرصاص الحي على المدنيين العزل المتظاهرين بدم بارد.
ومع تصاعد الاحتجاجات والمظاهرات، أعطى النظام الضوء الأخضر لحفنة مرتبطة به أمنيا من أبناء العشائر في المنطقة الذين حطموا المحلات العائدة بملكيتها للأكراد، ونهبوا وسلبوا ممتلكاتها، الأمر أحدث جروحاً في النسيج المجتمعي، ولكن بفضل تدخل وتأثير العقلاء والحكماء من الجانبين، لم تتطور الأمور نحو الأسوأ الذي كان النظام قد خطط له، ويريده.
ومع انطلاقة الثورة السورية شارك الشباب الكردي في مختلف المناطق، خاصة من غير المنتمين إلى الأحزاب السياسية، في الثورة منذ أيامها الأولى؛ وكانت المظاهرات في المناطق الكردية فاعلة، ولافتة للانتباه. ولكن الذي حصل هو أن النظام كان قد تحسّب للأمر، فهو كان يدرك أن تدخله المباشر لقمع المظاهرات في المناطق المعنية سيؤدي إلى تصاعد التفاعل الكردي مع الثورة، وسيعزز تماسك السوريين في مواجهته.
هذا إلى جانب الخشية من المواقف الدولية التي كانت ستختلف من دون شك، وكان من الصعب حينئذ بالنسبة إليه أن يمرر استراتيجيته التي كانت تقوم على الربط بين الثورة والإرهاب، ومحاولة تصوير ما يجري في سوريا وكأنه صراع بين التيارات الإسلامية العربية السنية المتشددة، والنظام العلماني “الحامي للأقليات” المذهبية والقومية في سوريا.
ولتحاشي كل ذلك، عقد النظام صفقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، من أجل تسليمه المناطق الكردية، ليتمكن من ضبطها، ومنع تفاعلها مع الثورة بكل الوسائل وبأي ثمن؛ وتفاصيل هذا الموضوع قد باتت معروفة من قبل الجميع.
ومع ظهور داعش، الذي هو في الأساس كوكتيل مخابراتي أسهمت في صناعته وترويجه أجهزة أمنية متعددة الجنسيات، ومن ضمنها أجهزة النظام نفسها، سعى النظام لخلق حالة من الفوضى العاتية، ووضع العالم أمام خيارين فاسدين: إما النظام بفساده واستبداده أو التطرف الإسلاموي المتشدد الذي يهدد المنطقة، بل والعالم بإرهابه.
وكان من الواضح أن هناك جهات تعمل بمختلف الأشكال من أجل تفجير العلاقات العربية- الكردية، وقد ظهر ذلك واضحا من خلال الهجمات التي قامت بها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي على بعض المدن والقرى العربية مثل تل حميس وتل براك دون أسباب مقنعة. كما هاجم بعض المسلحين بلدة تل معروف حيث مقر مشيخة آل الخزنوي، وهاجمت بعض الفصائل التي كانت محسوبة على المعارضة مدينة رأس العين، حيث قامت عناصرها بسرقة الممتلكات العامة والخاصة، وارتكبت جملة من الانتهاكات بحق المواطنين.
بعد ذلك كان الهجوم الداعشي المفاجئ على سنجار والمناطق الإيزيدية المحيطة بها، وهو الهجوم الذي أسفر عن مجازر مروعة، وحالات خطف جماعية للأطفال والنساء، ونهب متوحش للممتلكات. وكانت هناك محاولات مشبوهة من قبل الداعمين والمستفيدين للربط بين العرب السنة والتنظيم المذكور؛ الأمر الذي أحدث صدمة عميقة في الوجدان الكردي الشعبي العام، ومنح ذريعة إضافية للكرد المترددين، أولئك الذين كانوا قد اصطفوا بناء على المصالح مع النظام، لتسويغ مواقفهم، بل واتهام الكرد الآخرين الذين كانوا قد التزموا خط الثورة منذ البدايات بأنهم ضد شعبهم، يتحالفون مع الإسلاميين المتشددين، الأمر الذي كان يتطابق حرفياً مع الاستراتيجية التي اعتمدها النظام منذ البداية كما أسلفنا.
ومع الهجوم الداعشي على كوباني ومنطقتها، توفر المزيد من الحجج لأنصار عزل الأكراد عن الثورة السورية، وتعززت جهود أولئك الذين كانوا يخططون، وما زالوا، لإحداث قطيعة مجتمعية بين الكرد والعرب، بل وترسيخ أسباب الكراهية والعداوة بينهم.
وتطورت الأمور، وجاء التدخل الأميركي في سوريا بالتنسيق مع التدخل الروسي، وتم الاعتماد على قوات حزب الاتحاد الديمقراطي في محاربة مشروع داعش، وذلك بعد إخفاق تجربة تدريب فصائل الجيش الحر بسبب إصرار الجانب الأميركي على أن يكون الهدف محاربة داعش من دون النظام.
وكان إقحام القوات المعنية في القتال ضمن المناطق العربية سواء في الرقة أو في دير الزور، وريف الحسكة الجنوبي، من الأسباب التي أدت لاحقاً إلى تصاعد وتيرة خطاب الكراهية بين العرب والكرد؛ خطاب مبني على جرائم خططت لها الأطراف التي كانت، وما زالت، لا تريد الخير للكرد وللعرب، وإنما تريد إشغال الطرفين ببعضهما البعض، لتتمكن من تنفيذ خططها، والوصول إلى أهدافها.
وقد أسهمت انتهاكات عناصر الفصائل العسكرية التي أدخلتها القوات التركية إلى عفرين تحت مسمى الجيش الحر، أو تلك التي رافقت الحملة التركية الأخيرة في منطقتي تل أبيض ورأس العين تحت اسم الجيش الوطني، في تفاقم الأمور بصورة أسوأ، ورسخت حالة من التوتر والتشنج والترقب لدى الأكراد والعرب في الوقت ذاته، وفي مختلف المناطق؛ وكل ذلك لن يكون في مصلحة السوريين، بل سيكون في مصلحة النظام ومصلحة القوى التي تعبث بمصير سوريا والسوريين.
المسؤولية الوطنية تلزم النخب العربية والكردية بالتدخل لمواجهة هذه الوضعية المصطنعة التي فرضت على الجميع بإرادة الآخرين. التزام الصمت في هذه الحالة لا يخدم سوى المتطرفين، سواء في هذا الجانب أو في ذاك، وفي المحصلة النهائية يخدم النظام.
ما نحتاج إليه هو أن نلتزم الصبر والهدوء، ونتناول الموضوع من جوانبه بجرأة وحكمة بعيدة النظر. نبحث بموضوعية عن الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه، ونعمل على تجاوز النتائج السلبية التي لا تخدم قطعاً المشروع الوطني السوري الذي ثار الشعب السوري لتحقيقه، هذا المشروع الذي تمكنت القوى المضادة بفعل عوامل عدة لسنا بصدد الإسهاب في شرحها بتفاصيلها هنا، من عرقلته، حينما دفعت بالثورة نحو مسارات لا تتقاطع من بعيد أو من قريب مع تطلعات السوريين، بل تتناقض معها بالمطلق.
ولكن مهما يكن، فإن الربيع المنتظر سيظل هو هدف السوريين، كل السوريين، رغم كل ما حصل ويحصل.
وما تشهده عدة دول عربية في أيامنا هذه من تحركات شعبية تطالب بإبعاد الفاسدين عن الحكم ومحاسبتهم، بل تدعو إلى تفكيك الأنظمة الفاسدة المفسدة، واحترام إرادة الشعوب، يؤكد أن التغيير بات خياراً استراتيجيا بالنسبة إلى شعوب المنطقة، وكل الأدوات التي استخدمت، وتستخدم لمنع أنصار التغيير لن تتمكن من منع حصول المنتظر المطلوب.
ربما تمكنت من تشكيل عرقلة هنا أوهناك، أو أفلحت أحيانا في تكريس إحباط هنا وهناك، ولكن في نهاية المطاف ستكون الكلمة للشعوب بعد أن تحررت من أوهامها؛ أوهام الأيديولوجيات التي لم تتناسب يوماً مع طبيعة مجتمعاتها وحاجاتها الحقيقية، كما تحررت تلك الشعوب من مخاوفها بعد أن وصل السكين إلى العظم كما يقول المثل، نتيجة تراكمات الفساد والاستبداد.
لقد أثبتت العقلية الماضوية النكوصية بكل توجهاتها فشلها الذريع، الأمر الذي يفتح الطريق أمام الجهود المتوجهة نحو مستقبل أفضل، يضمن لمجتمعنا وأجيالنا المقبلة حياة إنسانية كريمة، ويوفر أسباب نمو مستدام، أساسه الاستثمار الرشيد لمواردنا البشرية والطبيعية.
عذراً التعليقات مغلقة