يارجالَ الموصلِ الحدباء … من كل شهم اتخذ المجد شعاراً
تلك بغدادُ سعى أبناؤها … فأصابوا دوننا اليوم افتخارا
لم يكتب “محمد حبيب العبيدي” هذه الكلمات وهو يشاهد بغداد الثائرة اليوم أو الموصل أو مدن العراق الزاحفة في سبيل حريتها، بل كتبها في جيل أجداد من ملؤوا شوارع العراق اليوم، كتب العبيدي كلماته قبل مايقارب من مئة عام و هو مزهوٌ بأبناء الرافدين الرافضين للانتداب الانجليزي على العراق في ثورة العشرين (1920) ، ليجاريه يومها ابن كربلاء الشاعر خليل عزمي بحروفه المتلهفة للحرية:
بشراك كربلاء قومي انظري العلما ….. على ربوعك خفاقا و مبتسما
شعبٌ تفانى وراء الحق مبتغياً ….. نيل الكرامة جار الغرب أو ظلما
ظلمٌ و جورٌ أبت أرواحنا شمماً …. أن تستكين لمن لم يرعها ذمماً
انطلقت الثورة العراقية حينها في يوليو من عام 1920 بسبب إعلان معاهدة سان ريمون في إيطاليا في 25 نيسان 1920 والتي وضعت العراق تحت الانتداب البريطاني و بسبب عدم ايفاء دول الحلفاء بوعودهم للعرب بنيل الاستقلال و إنشاء دول عربية مستقلة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ، حيث سبق ذلك تزوير إرادة الشعب العراقي في استفتاء 1918-1919 ،بالإضافة إلى الفساد المالي لكثير من الحكام السياسيين و معاونيهم من الانكليز الذين تولوا المناصب في مدن العراق ، وكان نقص المساواة و العدالة المُطبقة من قبل الانكليز في العراق أيضاً سبباً من الأسباب الداعية للثورة.
كان للنخب العراقية يومها دور محوري في توحيد حراك الشعب العراقي، حيث أفتى آية الله “محمد تقي الشيرازي” بحرمة التعامل مع الانكليز ، كما حثَّ الشيخ “مهدي الخالصي” الشعب على الثورة ضد الانتداب الانكليزي، وفي الشمال أيضاً أعلن قائد الكُرد “محمد برزنجي” الثورة المباشرة ضد الانكليز. فانطلقت الثورة بمظاهرات سليمة و لكنها سُرعان ماتحولت إلى مسلحة بسبب قتل الثوار ل “ليجمن” (أحد حكام الانكليز في العراق) بعد إهانته لشيخ عشيرة عراقي، فقامت قوات الانتداب باعتقال الشيخ ولكن أبناء عشيرته استطاعوا تحريره بالقوة. وقام الثوار بعدها بقطع سكك الحديد بين بغداد وسامراء وذلك لقطع إمدادات الجيش البريطاني بين الموصل وبغداد وسيطروا أيضاً على بعض المدن ،ثم امتدت الثورة إلى باقي محافظات العراق و استمرت قرابة ستة أشهر، وكانت الخسائر البشرية للقوات الانكليزية حوالي 500 جندي انجليزي وهندي ،بالإضافة إلى خسائر كبيرة في الممتلكات تزيد عن أربعين مليون جنيه استرليني، واستخدمت قوات الانتداب شتى أنواع الأسلحة في مواجهة الثوار العراقيين بما فيها الفوسفور الأبيض فقتلت 6 آلاف ثائر عراقي.
لم تُكلل ثورة العشرين بالنصر بسبب العنف الوحشي الذي طُبِّق عليها من قبل الانتداب الانكليزي وقِلةِ الموارد لدى الثوار مقارنة بالانكليز، إضافة إلى انقطاع أخبار العراق عن العالم في فترةِ الثورة، وما إن انتهت الثورة حتى عقدت بريطانيا مؤتمراً في القاهرة حول العراق ، وقامت بتشكيل أول حكومة مؤقتة كما أعلنت بريطانيا عن رغبتها في إقامة ملكية عراقية رشحت لها الأمير “فيصل بن الشريف حسين” ثم قامت بإجبار الملك فيصل على التوقيع معاهدة بين بريطانيا والعراق تضمنت بعض أسس الانتداب.
وما بين ثورة الأجداد وثورة الأحفاد، بقي الأدباء والشعراء يستنهضون العراق العظيم ويستنجدون به في منعطفات الأمة وأزماتها، وما كانت قصيدة الشاعر الدمشقي نزار قباني بعد نكسة حزيران 1967 في مؤتمر الشعر السابع ببغداد إلا أملاً بالعراق، فنادى عليه :
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك ….
وبعـضٌ من الغنـاء بكـاء
أيها الراكعون في معبد الحرف … كـفانا الـدوار والإغـماء
في فمي ياعراق.. مـاءٌ كـثيرٌ … كيف يشكو من كان في فيه ماء؟
أنـا حريتي… فإن سـرقوها … تسقط الأرض كلها والسماء
ليرد عليه ويجاريه فيما بعد ابن العراق محمد مهدي الجواهري ويخاطب شعبه :
صبراً وما طاب لكم … مرعاكم والمورد
صبراً وما عودتموا … من قبل أن تضطهدوا
إن رفعت رواقها … الحرب فأنتم عمد
وأنتم إذا الوغى … أعوزه من يوقد
نيران حرب يصطلي … الأدنى بها والأبعد
مئة عام وما زال ذاك الدم في الأجداد يسري في الأبناء ويُحرِك شعب العراق العظيم ليُكمل ربيعاً عربياً لن يكتمل إلا بنخل العراق ، فخرج الشعب العراقي في بداية أكتوبر يغازل الحرية وكما قال القباني يوماً “أحسن الوقت للهوى تشرين” ليقف في وجه الحكم الفاسد في العراق، ويتحد أبناؤه ويجتمعوا على مذهب الحرية الذين أخفى اختلافهم ، فأثبتوا أن ما رأوه من بطش الأسد وحلفائه الذي قد يصيبهم مثله من الموت أو الاعتقال أو التهجير، هو أهون بكثير من حياة ذُلٍ واستعباد واستبداد. فالربيع العربي العظيم الذي أبى إلا أن يمر من بلاد الرافدين لتُزهر به ادلب وتفرح به القاهرة وتغني لأجله صنعاء لتتحقق حتماَ في نهايته الأسطورة التي كتبها فخري البارودي:
بلاد العرب أوطاني .. من الشام لبغدان .. ومن نجدٍ إلى يمنٍ … إلى مصر فتطوان.
Sorry Comments are closed