لا تسكنوا في الخيام، قطعة القماش التي تحجب عنكم البرد ترزح تحت عبء أنفاسكم التي تصعد نحوها، والدول الصديقة تحاول أن تشد من نسيج قماشها الرثّ ما استطاعت، كي تستر به سوءتها وعجزها عن حمايتكم.
لا تهربوا إلى تلك البلاد الصديقة أيضاً، فأنتم موصومون بما ليس فيكم، وغير مرغوب بوجودكم هناك، وأرض تلك البلاد قد ضاقت بكم حد الاختناق.
لا تعتقدوا أن من بين خياراتكم أن يحق لكم البقاء في بلادكم أيضاً، فقد باتت عليكم حراماً ولفظتكم من جلدها منذ عقود.
لا تطؤوا الأرض بكل هذا الثقل، إنها تئن تحت خشونة أقدامكم الحافية التي أكل البرد طبقات جلدها، ولم يعد الطين يحتمل هذا الوضوح الصارخ والألم العميق.
حبذا ألا ترموا أحذيتكم العتيقة الممزقة، احتفظوا بها تحت وسائدكم ربما تحتاجونها في يوم من الأيام لتقذفوا بها في وجه هذا العالم المتحضر الذي لم يعبأ لألمكم ولشرذمة أجسادكم.
ذرات الأوكسجين التي تنفستموها في دول اللجوء ليست من حقكم، إنها من حق أبناء البلاد الأصليين وأنتم مجرد سارقون احتلوا بلادهم الآمنة، وهددوا أمنهم المستدام وقضّوا مضاجع حكوماتهم التي سرقت باسمكم ملايين الدولارات.
ربما لم يعد هذا العالم يتسع لنا معاً نحن الملعونون بالشتات المطرودون من أرضنا، لقد بات ظلنا يشكل عبئاً في الأماكن التي يسكنونها وصرنا نشكل للعالم ازدحاماً لا يحتمله.
لكن عدالة العالم المفترضة لا تأبه لتدخل جيوش العالم بأكملها بجحافلها وجنودها وآلياتها في حدودنا المسلوبة، فهذا لا يشكل خطراً على السلام الذي يدعونه بل إنه مدعاة للفخر والتندر.
هل سألنا أحد ما إن كان السوريون يريدون هذا، وهل لوجود كل ذلك الكم من المعدات العسكرية ضمن حدودنا تفسير واحد سوى منطق القوة الذي يحكم العالم، العالم الذي يرفض أن يمنحنا ملاذاّ آمناً ويسمح أن تصبح الأرض التي كانت تسمى وطننا رقعة شطرنج ليتقاسموها.
هل من حق جيراننا الأتراك الذهاب إلى العمل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وفي وقت كانت تعاني فيها بلاده من الكساد والفقر، لتطيب لبعضهم الإقامة هناك ويستقر وينجب ويورث أبناءه الجنسية التي حصل عليها، وينكر علينا فيما بعد تجاوز الحدود من أجل البحث عن سماء لا تمطر براميلاً وقنابل؟
هل من حقه أن يبقى محتلاً في بلادنا ما يقارب أربعة قرون ولا يتسع لنا صدره سنوات أقل من ذلك بكثير سواء باسم الإنسانية أو غيرها.
هل يمكن لحقوق الإنسان العالمية أن ترفض لجوءك في أراضي الكرة الأرضية الواسعة افتراضياً، ويشتمك سكان الكوكب بلجوئك وينعتونك بصفات فيها من شعور التفوق تجاهك ما تقشعر له الأبدان، فيما يبرر العالم بأسره له عنصريته وعقدة تفوقه.
لقد عاشت سوريا فترة ليست بقصيرة تعج بالأشقاء اللبنانيين أيام الآحاد والجمعة من أجل التسوق، ومن أجل اغتنام فرق العملة والأسعار بين البلدين، حتى صار موضع أقدامهم فيها أصبح حقاً مكتسباً من حقهم الدفاع عنه، وتعدى ذلك ربما إلى تبرير وجودهم العسكري في مدننا.
لم تعد مساحة الأمان التي تقلصت فيها أحلامنا كافية، لقد كانت خطيئتنا أن اعتقدنا في يومٍ ما أن الأحلام قريبة حقاً، فغامرنا بسلام صباحاتنا من أجلها، لكنها لم تدنُ بعد.
زرعنا الرمان في شوارع ثورتنا اليتيمة لتزهر في أواخر الصيف كقصص العشاق كلها، لكن نوافذنا صارت حمراء بلون دمائنا التي غطت الإسفلت.
لم يكن موتنا العلني حديث العهد، لقد مات السوري منا قبل الآن، لقد سبق لنا الموت مراراً وتكراراً تكفيراً عن ذنب لم نرتكبه.
المرة الأولى التي شهدت الكواكب موتنا فيها كانت حين استيقظنا من غيبوبة استمرت عقوداً، قبل أن يكتشف العالم جثتنا وقد لفظها البحر إلى الشاطئ ونحن في رحلة لجوء بائسة بحثاً عن حياة لم تكن من قسمتنا.
متنا سراً وجهاراً وفي صحتنا وفي مرضنا، نحن السوريون الذي يتباكى العالم الآن على موتنا عبر شاشات التلفاز أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
متنا من دون أن يتكلف العالم مراسم دفننا، جمعوا أشلاءنا في مقابر جماعية كبيرة وأطلقوا عليها اسم ضحايا الحرب، من دون أن يوجهوا لأحد منهم أصابع الاتهام، ومن دون أن يعذبهم وجدانهم قبل النوم بأنهم كانوا شركاء في تلك المجزرة.
عذراً التعليقات مغلقة