نهاية المتحف.. “سوء تفاهم مع تلميذ التاريخ” / قصة: مصطفى تاج الدين الموسى

مصطفى تاج الدين الموسى27 أغسطس 2019آخر تحديث :
مصطفى تاج الدين الموسى

كنتُ صغيراً عندما بدؤوا في بناء هذا المتحف الضخم، فوق الفسحة التي يلتقي فيها طريقا العاصمة والريف، أتذكر أنَّ خالي شتمهم آنذاك أمامي، عندما مررنا بهم، قال ممتعضاً بقرف: عليهم اللعنة، لو أنهم يصنعون حديقة واسعة هنا، عوضاً عن سجن الأوهام هذا، “تنهد، ثمّ أردف” حديقة يلهو فيها الناس، إنها أفضل من هذا البناء الذي يجمع الأكاذيب القديمة مع بعضها، أكاذيب حجرية.. ترهب كثيراً من يتأملها، أكاذيب حجرية مهمتها، تعبئة فراغ عقل الإنسان، وتعبئة فراغ معدته أيضاً…

نحن والمتحف جيران منذ عشرين عاماً، كلما دخنتُ سيجارة على شرفة بيتنا، أرمقه باشمئزاز، أتخيله مدمراً، وعلى أنقاضه يبدأ الناس بتأسيس حديقة واسعة وجميلة، أمعقولٌ أنه لا يوجد في مدينتنا حديقة يلهو فيها البشر بسعادة؟ بينما يوجد متحف يتجول فيه الناس، ويرمقون الآثار بخوف، والرهبة تعتصر قلوبهم؟ هذا ليس عدلاً، هذه المدينة ليست عادلة، المدن العادلة هي التي تمنح سكانها الحدائق، وليس المتاحف.

في كلّ مدينة من هذا العالم يوجد متحف، هذا يعني أنه في كل مدينة يوجد مجمع للأكاذيب الحجرية، التي اسمها آثار، هل ساعدت هذه الآثار طوال تاريخها على شفاء جروح مريض؟ أو مساعدة فقير؟ أو إطعام جائع؟ أو إنقاذ سجين؟ أو مواساة أرملة؟ أو الاهتمام بعجوز؟ بالطبع لا، إنما نصف أمراض البشرية حالياً سببها تلك الآثار، إنهم يملؤون بها فراغ معدة الجائع، وفراغ عقل الأبله، ليظلوا مسيطرين على الجياع والأغبياء.

يقع متحف مدينتنا على المدخل الرئيسي للمدينة، على يسار المتحف يوجد الطريق الذاهب إلى قرى الريف، وبيتنا يطل على المتحف من فوق رصيف طريق الريف، وعلى يمين المتحف يوجد طريقٌ أخر يذهب إلى العاصمة.

جاءت الحرب منذ سنوات، دمرت وأحرقت أغلب البيوت والأبنية في مدينتنا، قتل الكثير من البشر، اختلفت القوانين وطبيعة الحياة ونوع المنتصرين، انسحبت الحكومة وسيطرت المعارضة، صارت المدينة وكأنها أطلال شاحبة، كل هذا حدث والمتحف ما يزال جاثماً هنا مثل تنين مخيف، لم يمسسه أحد بسوء، وكأن أطراف الحرب على اختلاف توجهاتهم، متفقين مع بعضهم ضمنياً على احترام الآثار، والرغبة في الحصول عليها، وهذا أبشع ما في الحرب.

في الأشهر الأخيرة من فوضى الحرب، عقدت الحكومة والمعارضة أكثر من هدنة، في كل هدنة كان الناس يخرجون ببطءٍ مثل الأشباح، يعيدون ترتيب موتهم، ينتشلون جثث القتلى من بين الأنقاض، ويدفنونها على عجل، ثمّ يحصلون على القليل من الخبز والماء، مؤونة لأيام أخرى من الحرب.

في الوقت ذاته من الهدنة، ثمّة وسطاء من الحكومة والمعارضة، كانت مهمتهم سرقة بعض الآثار، بالتنسيق بين بعضهم،  وبيعها بمبالغ خيالية سراً في السوق السوداء ليلاً، ونهاراً.. تتجدد الأعمال القتالية بين الطرفين، اللذين لم يتصالحا في سنوات الحرب، إلا قليلاً، في داخل المتحف فقط.

في الشتاء الماضي، بدأتُ حفر نفق يمتد من غرفتي ويمر تحت طريق العاصمة، مروراً من تحت الحديقة الصغيرة للمتحف، لينتهي في غرفة جانبية مهملة من البهو الواسع للمتحف، وعندما انتهيتُ من حفر النفق بدأت بالثأر للبشر، كنتُ أنتشي روحياً بشكلٍ غير طبيعي، كلما تسللت عبر نفقي إلى المتحف من أجل سرقة بعض الآثار، والرجوع بها إلى غرفتي، وما إن يبدأ القصف، انتهز فوراً ضجيجه العالي لأهوي بمطرقة كبيرة على ما سرقته من آثار، أسحقها، وأحولها إلى كتلة من أتربة وحصى خلال وقت قصير.

لا أحد عرف بخطتي هذه، سوى تلك الفتاة الجميلة والعارية على لوحة كبيرة، علقتها منذ سنوات على جدار غرفتي، كانت تلك العارية تشعر بالسعادة من داخل لوحتها، وأنا أحطم هذه الآثار بمطرقتي.

“قتل الآثار واجب إنساني” قالت لي مرّة العارية الجميلة على جدار غرفتي، أجبتها وأنا أشعل سيجارة:

ــ لا يمكن تحرير الإنسان من العبء القديم للآثار إلا بتحطيمها، وإزالتها من الوجود نهائياً، وكأنها لم تكن… لقد أُجبر الفقراء في عصورٍ قديمة على صناعة هذه الآثار، خدمة لملوك طغاة أو أغنياء قساة، عندما ننتهي من هذه الآثار، ينتهي الماضي كله، ونصير أبناء يومنا هذا، وكأن الحياة هي نحن فقط، بدأت مع بدايتنا وتنتهي مع نهايتنا، لا شيء قبلنا ولاشيء بعدنا…

كنتُ كلما هويتُ بمطرقتي على الآثار، ينهض فقراء ومظلومون داخلي، ينتمون إلى عصور قديمة ومختلفة، ليهتفوا داخل جسدي ضد الحضارات، في مظاهرة عارمة تمشي في عروقي حتى رأسي.

خلال أسابيع قليلة وبمساعدة نفقي المتواضع ومطرقتي الثقيلة، استطعتُ سرقة وتحطيم عددٍ لا بأس به من تلك الآثار، المتراكمة في البهو الواسع للمتحف.

هذه الليلة، قررتُ أن أتسلل إلى المتحف مجدداً، اقتربتُ من جدار غرفتي، وانحنيتُ على صورة المرأة الجميلة فوق جداري، لأطبع قبلة على شفتيها وسبابتي تتمشى بكسلٍ على نهديها، همست لي مثلما تهمس عاشقة لحبيبها “ترجع بالسلامة” ابتسمتُ لها واستدرتُ لأدخل النفق، وأزحف فيه حتى وصلتُ المتحف.

شعرتُ بالحاجة للتبول، مشيتُ بين الأعمدة الضخمة والآثار المتناثرة هنا وهناك، والصناديق وأكوام الحجارة، تخطيتُ ازدحام الفوضى في بهو المتحف متجهاً إلى الحمام، دخلته فشهقتُ من هول المفاجأة بعد أن ارتطمنا ببعض، أنا وشخص غريب، سرعان ما عرفته، إنه جارنا على الطرف الآخر، أيمن… سبق لنا أن درسنا خلال طفولتنا في المدرسة ذاتها، قبل أن نفترق، وتابع هو دراسته في الجامعة قسم التاريخ، كانت مصادفة غريبة، لم نلتقِ منذ سنوات ثمّ التقينا في قبو المتحف، لكمته على كتفه ضاحكاً:

ــ كيف حالك يا تلميذ التاريخ؟ ماذا تفعل هنا؟ تسرق الآثار؟

سألته بخبث وأنا أغمزه بعيني، أجابني وهو ينفض الغبار عن ثيابه دون مبالاة.

ــ أحاول تهريب بعض الآثار، وتخبئتها في بيتي ريثما تنتهي الحرب، أولئك الأوغاد يتناوبون على سرقتها، وأنا أنقذ بعضاً منها، إنه تاريخنا، يجب أن أنقذه… وأنت ماذا تفعل هنا؟ وكيف دخلت المتحف؟

لم أجبه عن أسئلته، استنتجتُ أنه يدخل إلى المتحف من الجزء المتهدم في السور، من جهة بيته، المحاذي لطريق العاصمة على الطرف الآخر.

اشتعلت النار داخل عروقي، الوغد يريد إنقاذ هذه الأوهام الحجرية، ويبدو أنه قد استطاع سابقاً إنقاذ بعضها، كم هو أبله وأحمق تلميذ التاريخ هذا.

صرختُ به:

ــ هل تعتقد أن إنقاذ الآثار شي جيد يا صاحبي؟ والناس يقتلون في الشوارع؟

ــ طبعاً إنها حربٌ على تاريخنا بالدرجة الأولى…

ضحكت من قلبي كله هازئاً من كلماته، عادة.. أنفجر ضاحكاً كلما سمعتُ عبارة من هذا النوع “إنها حربٌ على تاريخنا”.

قلتُ له من بين ضحكاتي، وقد مشينا معاً حتى منتصف بهو المتحف، حيث يوجد في السقف لمبة ذات ضوء متواضع:

ــ اللعنة على هذا التاريخ، تاريخ مليء بالقتل والظلم وهذه الآثار…

أزعجته كلماتي فأشاح بوجهه عني متجاهلاً فكرتي، ناولته سيجارة  ثمّ أشعلتُ واحدة أخرى لي، سألني مجدداً وهو يجلس متعباً على صندوق:

ــ ماذا تفعل هنا وكيف دخلت المتحف؟

ــ دخلتُ من نفق حفرته أنا، لكن ليس مثلك، لم يكن هدفي إنقاذ الآثار من السرقة..

رمقني بغضب، تمتم بكلماته:

ــ يبدو أنك مثلهم، كنت تسرق الآثار أيضاً لتبيعها، يا حيف عليك..

ــ لا، أنا لا أسرق الآثار ولا أبيعها..

مطً شفته السفلى مستغرباً وسألني:

ــ لماذا تحفر نفقاً وتسرق من خلاله الآثار؟..

ــ لأحطمها…

ــ ماذاااا؟

صرخ وهو يهب واقفاً مثل بركان انفجر تواً، وتطايرت حممه عالياً، تلوّن وجهه مثلما يتلون وجه بدوي، وصله الآن خبر مقتل والده، يبدو أن تحطيم الآثار بالنسبة لتلميذ التاريخ هذا، أشبه بقتل الأب.

ــ قل لي إنك تمزح؟..

ــ وهل يوجد بيني وبينك مزاح؟.. أنا فعلاً أسرق الآثار من هنا، وفي غرفتي أحطمها بمطرقتي بهدوء وأنا أردد الأغاني التي أحبها…

هجم علي والتقطني من ياقة قميصي، شدني إلى وجهه:

ــ أنت مجنون، أنت مجرم أكثر من الحكومة والمعارضة، على الأقل هم يبيعون الآثار ليربحوا، قد نستطيع مستقبلاً إعادة ما باعوه، لماذا تحطمها أيها الحقير؟

دفعته عني بقوة، واستدرتُ لأمشي خطوتين مبتعداً عنه، أعدتُ ترتيب قميصي، قلتُ له بثقة هائلة دون أن أستدير إليه:

ـــ تدمير المتاحف هو الخطوة الأولى لإنقاذ البشرية، إنها مجرد أوهام حجرية يا غبي، يستخدمونها ليجبرونا على تحمل حياتنا المقرفة، هذه الآثار مخدر فقط…

ــ يا إلهي، من أين جلبت كل هذه الأفكار الغريبة؟ أنت شيء لا يصدق، لا وجود لمثلك في كل الكتب؟ عليك اللعنة…

صرخ كلماته من خلفي، بصراحة… أعجبتني فكرة أنه لا وجود لمثلي في كل الكتب، شهادة أفتخر بها من أحد تلاميذ التاريخ.

استدرتُ إليه وتابعتُ شرحي واثقاً من كلماتي، علّه يفهم:

ــ لماذا لا تحاول أن تفهم أنك أنت الحضارة، كل إنسان بحد ذاته هو حضارة، وليس هنالك أيّ شيء قبله ولا بعده، ماذا لو ألغينا مادة التاريخ من مدارسنا، وسحقنا كل الآثار في العالم، سوف نحصل على أجيال صادقة، لديها قناعة أن حياتها فقط هي التاريخ، دون تلوث من الماضي، تلك الشعوب التي عاشت قديماً لا تمت بصلة لنا، لا علاقة لنا فيها، يجب أن تموت تلك الشعوب في الماضي.. نهائياً، لنحصل في حاضرنا على حياة لا أكاذيب فيها ولا أوهام…

تابع صراخه في وجهي وهو يدور حولي مثل ثور هائج، كان وجهه ينقط غضباً فظيعاً:

ــ هذا الكلام بإمكانك أن تلقيه وأنت واقفٌ على كرسي في مستشفى المجانين، أفكارك أيها المعتوه تناسب المجانين فقط، يجب أن تسجن في مستشفى المجانين، سوف تسليّهم كثيراً بهذه الأفكار السخيفة…

حاول إغضابي، لكنه فشل، ثقتي بأفكاري كانت عمياء، أفكاري التي تمنحني الطمأنينة، هذه الطمأنينة التي عجزت الآثار عن منحها لأيمن وأمثاله.

ــ أريد أن أقتل آلاف السنوات من اليأس البشري؟

قلت له فردّ محاولاً تقليد صوتي ساخراً من فكرتي:

ــ لاشيء سوف ينتهي سواك…

شعرتُ بالشفقة على تلميذ التاريخ، ابتسمتُ في وجهه، توقف أمامي وسألني وكأنه يبحث عن جواب أخير:

ــ هل فعلاً كنت تسرق الآثار وتحطمها أم أنك تمزح؟ لا شك أنك تمزح، أنت مجرد لص، أليس كذلك؟ أرجوك، أخبرني أنك مجرد لص…

كاد أن يبكي، أشعلتُ سيجارة أخرى وابتعدتُ عنه، قلت له:

ــ اللعنة عليك وعلى من اخترع الحضارات واللغات، كان علينا أن نبقى في الغابات، نعيش حياة طبيعية بلا مشكلات وأمراض نفسية وهموم وأزمات وقوانين وحروب ودول وحدود، لا يوجد أجمل من أن يمضي الإنسان حياته القصيرة مستلقياً على الأعشاب، على فيء الأشجار، جانب ضفاف الأنهار، عارياً من ثيابه، وعارياً من الحضارات، وعارياً من اللغات، وعارياً من الأمراض، هذه الحضارات حرمتنا من نعمة الكسل، حرمتنا من نعمة الغباء، كان يجب أن نبقى أطفالاً في حيواتنا القصيرة…

ــ إذا كنت تريد أيها المجنون أن تبقى طفلاً على ضفة نهر، أتذهب وتحطم الآثار؟

ــ نعم، لكل شعب آثاره الخاصة به، آثارٌ تجر الشعوب من رقابها إلى الماضي، بجنازير قاسية لا مرئية ، لتصبر هذه الشعوب على حاضرها المرير…

سقط على ركبتيه من هول كلماتي، تمتم وهو يتحدث مع نفسه:

ــ  أيُّ مجرم هو أنت؟ كل مجرمي هذه الحرب بكف وهذا المجرم بكف…

ــ أنت المجرم لأنك تنقذ الماضي، أنا مخلص.. أسعى لأن أخلص البشر من الماضي…

ــ عليك اللعنة، أنت مجموعة مجانين يعيشون في جسدٍ واحد…

أضحكتني الكلمات الأخيرة لتلميذ التاريخ.

لمحتُ دمعة في عينه وهو يقول لي بجهدٍ حتى لا ينفجر، ويشير بسبابته إلى الآثار من حولنا:

ــ إنها بقايا أجدادنا…

مشيتُ حوله، عقدتُ كفيّ خلف ظهري، وشرحتُ له:

ــ أنت لا آثار لكَ، سوى صورة حبيبتكَ، لا آثار لك سوى صوركَ القديمة، بالأبيض والأسود، عندما كنت طفلاً بين والديك، لا آثار لك سوى البيت القديم الذي بناه جدك، لا آثار لكَ سوى أشجار البيت التي غرستها جدتك منذ عقود… هذه الأشياء فقط هي آثار كلّ إنسان، وما عداها ليست آثاره…

قاطعني بأن صرخ مجدداً:

ــ أنت ليس لديك عقل…

أردف صارخاً في وجهي وقد ازداد غضبه، فأجبته بلا مبالاة:

ــ أنت ليس لديك قلب، تلك الآثار صنعها فقراء ومسحوقون غصباً عنهم، في سبيل ملوك وأغنياء، عاشت تلك الآثار فعاشت معها أسماء طغاة وأسماء جشعين، لكن أولئك الفقراء ماتت أسماؤهم بموت أجسادهم، خانتهم هذه الآثار القذرة، بدلاً من أن تحمل اسم من صنعها، حملت اسم المجرم الذي أمر بصناعتها…

حاصر رأسه بساعديه، بعد أن حاصرت أفكاري عقله، كلماتي مزقت روحه، وأفكاري ذبحت أحشاءه، تلوى متألماً من هول الكارثة التي علم بها تواً، همس لي متوجعاً:

ــ من أين جلبت هذه الأفكار أيها المجنون…

ضحكت وقلتُ له:

ــ صاحبك المجنون حطم بمطرقته خلال الأسابيع القليلة الماضية عشرات القطع الأثرية…

هبّ واقفاً على قدميه، وكأنني قد اعترفتُ له بقتل والديه وزوجته وأبنائه وأحبائه.

شاهدتُ النيران تشتعل في عينيه، قال وجسده يتشنج:

ــ عليك أن تتوقف الآن أيها الوغد، أنت مجرم ويجب أن تحاكم وتشنق بتهمة العبث بتاريخنا و…

قاطعته بضحكتي العالية، كاد أن يُغمى عليّ من شدة الضحك، فعلاً مضحكة هذه الـ “تهمة العبث بتاريخنا”…

تركني أضحك وراح يتجول بين تماثيل الآثار وقطعها المتناثرة على الطاولات، كان ينظر فيها ويتحدث معها مثل أبله، كمن يتحدث مع أطفاله الصغار، وكأنه خائف على مستقبلهم.

صرختُ عليه من بعيد:

ـــ خائفٌ على مستقبل هذه الآثار من مطرقتي، ولست خائفاً على حياة البشر من الحرب؟! أسوأ الحروب هي التي لا تغير تفكيرنا الذي كنا عليه قبلها، للأسف،  تفكيرك لن يتغير أيها الأحمق حتى ولو بعد ألف حرب، لقد أتلفت دراسة التاريخ روحك الإنسانية…

لم يردَّ بحرف، كان يهذي بين التماثيل، سرعان ما تعثر ليسقط أرضاً ويحبو  بينها.

اقتربتُ من تمثال صغير، منحوت من عصور قديمة، حضنته ثمّ رميته على كتفي، مشيتُ وأنا أرمي بتحية الوداع على تلميذ التاريخ

ـــ وداعاً، بإمكانك أن تودع هذا التمثال أيضاً… لأنه بعد قليل سوف يتحول إلى ركام…

ومشيتُ لا مبالياً به، سرعان ما علت من خلفي صرخات وحشية أطلقها وهو يركض نحوي، استدرتُ وتحاشيتُ مسرعاً العصا التي هوى بها عليّ.

ـــ سوف أقتلك أيها الوغد، سوف أثأر لتاريخنا منك يا مجرم، سوف أدفنك هنا… في بهو المتحف.

وهجم عليَ مجدداً، فرميتُ التمثال عليه ليسقطا معاً أرضاً، أسرعتُ والتقطتُ أنبوباً معدنياً شاهدته جانبي، ودخلنا معاً في شجار عنيف، لم أنجُ من بعض ضرباته القاسية، ولم ينجُ من بعض ضرباتي اللئيمة، صراخنا كان عظيماً في بهو المتحف، أصبنا بعضنا بجراح عميقة، تعبنا وامتزجت دماؤنا على  أرضية البهو، لكن أحدنا لم يستطع التغلب على الآخر.

تلك التماثيل من حولنا، هجمت معه عليّ أيضاً، كانت تعرف أنني أقضي عليها بهدوء، وأنني قتلتُ الكثير منها، لتماثيل الآثار عقل عميق من الشر، تدرك البشر، لكن البشر لا يدركون هذا.

قاتلوني معاً… التماثيل الأثرية وتلميذ التاريخ، في معركته الدموية داخل البهو الواسع للمتحف، أصابوني كثيراً وأصبتهم معاً كثيراً، كانت الدماءُ تنزف من رأسي.

سرعان ما انتبهتُ إليهم وقد تحلقوا حولنا، وسطاء الحكومة ووسطاء المعارضة، صرنا في مبارزة دموية، ومن حولنا صار ممثلو الحكومة وممثلو المعارضة يهتفون مشجعين تلميذ التاريخ، الحقير أيمن…

 كان الجمهور المحيط بالحلبة على الرغم من تناقضاته، يهتف لأيمن فقط.

كلهم كانوا ضدي في بهو المتحف، يهجم عليّ تلميذ التاريخ ومن خلفه تهجم عليّ أيضاً تماثيل الآثار، وحناجر أنصار الحكومة وأنصار المعارضة تهدر من حولنا ضدي.

جمعتُ ما تبقى من قوتي وهجمتُ عليه، رفعتُ القضيب المعدني وهويتُ به على رأس أيمن، فسقط أرضاً والدماء تنفجر من رأسه، لأسقط معه على ركبتيّ وأنا ألهث متعباً ومتألماً.

تأملتُ جثته وأنا التقط أنفاسي، فجأة… تجمدت تلك التماثيل، أما وسطاء الحكومة ووسطاء المعارضة فقد تبخروا من حولنا.

استلقيتُ على الأرض وجراحي تعوي على جسدي، نزفتُ كثيراً، تحاملتُ على نفسي وجررت جسدي بصعوبة حتى النفق، زحفتُ داخله والأوجاع تفتك فيّ، تاركاً خلفي خيطاً طويلاً من الدماء.

عندما وصلتُ إلى غرفتي، انتبهتُ إلى شمس الصباح تدخل من شباكي فاستلقيتُ أسفلها.

أغمضتُ عيني، بلغت درجة من الوجع ما عدتُ بعدها أشعر بأيّ وجع، اتكأتُ على وسادتي، و شربتُ بصعوبة قليلاً من الماء من كأس جانبي، ثمّ أشعلتُ سيجارة، دخنتها على مهل، وأنا أراقب الشمس تشرق من شباكي، ناسياً نزيف دمائي، كنتُ أردد منتشياً:

ــ لقد هزمتهم جميعاً، تلميذ التاريخ والآثار والمتحف والحكومة والمعارضة، هزمتهم جميعاً، وقتلتُ آلاف السنوات من اليأس البشري…

انتبهتُ لها، الفتاة العارية في صورتها الكبيرة على جدار غرفتي، كانت تبتسم لي ابتسامة أوسع من ابتساماتها السابقة، قلتُ لها بأسى، وبركة دمائي تتسع تحت جسدي:

ــ لقد انتقمتُ لك من أولئك الأوغاد الذين اخترعوا الحضارة، عندما فشلوا في الحصول على جسدك…

بهدوءٍ، نزلت عن صورتها، عارية كما هي… اقتربت مني، جلست جانبي، ورفعت رأسي لتضعه في حضنها، رأيتُ في عينها حنان الغابات، ودفء الأنهار، ورقصات الماء، وفرح السهول، وطمأنينة العصافير.

مسحتْ على جبيني وشعري بحب كبير، غنت لي قليلاً، لم أعد أميز ملامحها جيداً وقد حاصر وجهها ضوء الشمس، فبدت لي مثل القديسين.

ثمّ مسحت عن خديّ دموعي ودمائي ، وقبل أن تغلق جفنيّ إلى الأبد، همست لي بلطف عذب:

ــ شكراً لك، لقد ثأرت لجسدي من كلّ الحضارات…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

إسطنبول 27/6/2019

** *** **

الأديب مصطفى تاج الدين الموسى في سطور:

moustafa - حرية برس Horrya press
الأديب السوري مصطفى تاج الدين الموسى

* قاص سوري من مواليد 1981 في إدلب، ويحمل إجازة في الإعلام من جامعة دمشق.

* يكتب القصة القصيرة والمقال والدراسات الادبية والنصوص المسرحية، وحاز على عدد من الجوائز الأدبية منها جائزة الشارقة للإبداع الأدبي – القصة القصيرة – في العام 2012

* صدر له المجموعات القصصيّة التالية:

1ــ (قبو رطب لثلاثة رسامين) ط1/دائرة الثقافة في حكومة الشارقة (2012)، ط2 دار نون في سوريا (2013)، ط3 دار ألكا في مرسيليا فرنسا (2017)، وصدرتْ مترجمة للغة الكُردية عن دار جي جي في تركيا (2018).

2 ــ (مزهرية من مجزرة) دار بيت المواطن للنشر والتوزيع، الرابطة السوريّة للمواطنة ــ بيروت ــ ضمن السلسلة الأدبيّة الشهريّة (شهادات سوريّة) العدد السابع (2014).

3ــ (الخوف في منتصف حقلٍ واسع)، دار المتوسط في نابولي، إيطاليا. بالتعاون مع جائزة المزرعة (2015)، وتصدر ترجمتها قريباً باللغة اليونانية.

4ــ (نصف ساعة احتضار)، دار روايات الإماراتيّة (2016).

5ــ (آخر الأصدقاء لامرأة جميلة)، دار فضاءات الأردنية (2017).

* وله مخطوطات قيد الطبع: (حافلة مليئة بالحقراء) تضم 15 قصة قصيرة، تصدر قريباً، إضافة إلى مختارات قصصية باللغة الفرنسية قريباً، عن دار أكت سود في باريس.

* صدر له المسرحيات التالية:

1ـــ (صديقة النافذة) ط1 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة الإمارات /2017/، ط2 عن دار نون، تركيا /2017/.

2 ـــ (عندما توقف الزمن في القبو الرطب) مونودراما، إصدار خاص، تركيا /2017/.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل