ورقة حزب الله تفقد أهميتها تدريجيا في حسابات الرد الإيراني على الحرب الأميركية الاقتصادية والمالية، ففي هذه الحرب تحتاج طهران إلى كسر الحصار بالمزيد من حماية ما تبقى لها من علاقات دولية وليس المغامرة بها.
حزب الله في لبنان، أو ما تبقى منه في سوريا، ليس الورقة المناسبة لتحقيق الهدف الإيراني المرتجى، ذلك أن أية مواجهة له مع إسرائيل هذه المرة، ستشكل عبئا إضافيا وثقيلا على إيران، من دون أن يوفر لها أية فائدة دولية، بل المرجح أنها ستخسر ما تبقى لها من حدود التعاطف الروسي والصيني، ولكن ما هو أخطر أن هذه الحرب في حال وقعت، ستكون أقرب إلى حرب إبادة إسرائيلية ليس على حزب الله فحسب، بل ستطال البيئة الحاضنة التي تحرص إيران على المحافظة على نفوذها في داخلها، ولا مصلحة لها في إنهائها طالما أن لا فوائد ستُجنى من ذلك في مواجهتها مع واشنطن.
ورقة حزب الله تفقد قيمتها الإقليمية وتتراجع، هي مطلوبة طالما لا تخل بالقواعد الإستراتيجية لروسيا الاتحادية في سوريا، ولا بتفاهماتها الإستراتيجية مع إسرائيل، ومن الطبيعي أن أي محاولة مسّ بأمن إسرائيل هي تجاوز بل تعدٍّ على مصالح روسيا نفسها. لذا يدرك مسؤولو حزب الله أن حضوره اليوم لا يتجاوز في قوته فعليا مهمة تقديم أوراق حسن سلوك دولية، بعدما أصبح بين فكي كماشة روسية من جهة، وإسرائيلية من جهة ثانية، فيما المساحة التي يتاح له فيها ممارسة سلطته هي اللعبة السياسية اللبنانية الداخلية بعدما أنجز مهماته السورية، أي ممارسة سطوته الداخلية اللبنانية قدر ما يشاء، وطالما تساهم هذه السطوة في حماية الاستقرار على الحدود الشمالية لإسرائيل.
هذا الواقع هو ما يجعل حزب الله كورقة تصعيد إيرانية في مواجهة إسرائيل، غير ذات فائدة أو معنى، لأنها لن تؤثر هذه المرة في مواجهة تجري بعيدا عن إسرائيل، بل على حدود إيران وفي داخلها وعلى المساحة الدولية، وهي حرب ستجعل إسرائيل رسميا طرفا في مواجهة إيران عسكريا، وإيران في غنى عن ذلك.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليس في عجلة من أمره لإنجاز حل مع إيران بشأن الملفات العالقة بين واشنطن وطهران، وهذا ما قاله مضمون إحدى تغريداته على موقع تويتر قبل أيام. فترامب انتهج منذ بداية انقلابه على الاتفاق النووي بين إيران ودول الخمسة زائدا واحدا، الخيار الاقتصادي كوسيلة لتطويع إيران، وعمد إلى استخدام وسائل العقوبات الاقتصادية والمالية، كمنهج للحرب التي يريدها مع النظام فيها، متفاديا أي محاولة انجرار في مواجهة عسكرية مع دولة يعتقد هو، أن شعبها يتوق إلى علاقات متقدمة مع “الشيطان الأكبر”، كما أنه مقتنع بأن “الحرب الناعمة” إذا صحّ التعبير تؤتي أكلها، وتحقق له تقدما في معركته هذه.
لا يخوض ترامب مواجهة تقليدية، إنها أقرب إلى إدارة صفقة تجارية يطمح للفوز بها، وهو وجّه رسائل عديدة إلى القيادة الإيرانية فيها الكثير من الترهيب كما لا تخلو من الترغيب. ترامب تحدث في شروطه للحوار مع إيران في البداية عن 12 شرطا يتوجبُ على طهران تنفيذها، ثم تحدث لاحقا عن اتفاق نووي جديد مع واشنطن، وبين هذا وذاك كان يلمح إلى إمكانية التسليم بدور إقليمي لإيران، لكن ترامب في كل طروحاته كان ينطلق من أن اتفاقا يجب أن ينجز مع النظام الإيراني، هو الكفيل بالاعتراف بدور إيران الإقليمي، لكن ضمن شروط متفق عليها بين الدولتين، تنهي النموذج القائم على تفريخ الميليشيات في المنطقة العربية كوسيلة للتمدد والنفوذ.
لبنان بهذا المعنى يشكل فرصة إيرانية حذرة في اتجاه تقديم رسائل إيجابية لواشنطن. اليوم، الثلاثاء، يصل مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد إلى بيروت لينقل الأجوبة الإسرائيلية للحكومة اللبنانية تجاه نقاط تتصل بإطلاق المفاوضات بين البلدين برعاية أميركية فعليا، وبمشاركة الأمم المتحدة، وليس من المصادفة أن يكون حزب الله هو من أعطى الضوء الأخضر لبدء المفاوضات بشأن ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهي بالضرورة رسالة ودّ واختبار إيرانية تجاه واشنطن وتل أبيب، تقدم طهران من خلالها الوجه الدبلوماسي على الوجه العسكري لنفوذها في لبنان. في موازاة ذلك المشهد المتصل بالحدود مع إسرائيل، تنكشف الوصاية الإيرانية على لبنان، بعدما أحكم حزب الله سلطته على الدولة، وهي وصاية عاجزة عن أن توفر شروط الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل تقف متفرجة على تآكل الدولة ومؤسساتها، وتفاقم أزمة الدين العام، المترافق مع تراجع مريع للاقتصاد المختنق، والذي يستنجد بأنابيب الأوكسجين التي يعدُ بتوفيرها مؤتمر “سيدر” الذي تتولى فرنسا متابعته فضلا عن دول أوروبية وعربية.
بهذا المعنى تفقد الترسانة العسكرية التي يمتلكها حزب الله معناها الإيراني، طالما أنها ترسانة محكومة بوظيفة حماية الاستقرار على حدود إسرائيل فقط، وهي مقيدة بأكثر من قيد. والتفلت من أيّ من هذه القيود قاتل لحزب الله وللبنان، فالحرب مع إسرائيل ستعني نهاية له بمباركة دولية، وأي حرب يخوضها ستعني انهيارا اقتصاديا وماليا شاملا في لبنان، لن يكون حزب الله هذه المرة بمنأى عنها، حتى من داخل بيئته التي تقف معه طالما لم يأخذها إلى الكارثة.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن العقوبات الأميركية على حزب الله هي نموذج مصغّر للعقوبات على إيران، فهذه العقوبات التي لا يوفر الأميركيون فرصة من أجل تشديدها، تساهم، للمفارقة، إلى حد بعيد في المزيد من انسجام حزب الله مع المتطلبات الدولية والأميركية. إذ كيف يتم، مع تصعيد هذه العقوبات، الوصول إلى موافقة حزب الله الأيديولوجي والمعادي للولايات المتحدة، على أن تكون واشنطن طرفا وسيطا بين لبنان وإسرائيل؟ وأضعف الإيمان أن يرفض حزب الله ذلك لكنه لم يفعلها، وإن عبّر ذلك عن شيء فهو يعبر عن محاولة الحزب ومن خلفه إيران الترويج للقول إننا لسنا في موقع معاد بالمطلق لواشنطن، ويمكن أن نوفر شروطا لعقد اتفاقيات وتفاهمات حتى مع إسرائيل.
يبقى أن حزب الله الذي تراجعت قدراته المالية، لاسيما تلك التي تقلصت بسبب العقوبات الأميركية، أو بسبب تراجع قدرة إيران على توفير الدعم كما كان يجري في سنوات سابقة، بات عاجزا عن مواجهة متطلبات مادية واجتماعية في بنيته الحزبية وفي بيئته الحاضنة، وهي وإن لم تكن إلى الحدّ الذي يهدد نفوذه وسطوته، إلا أنها أفقدته بعضا من وهجه وسطوته المعنوية، وبات أمام واقع اجتماعي واقتصادي مأزوم، يفرض عليه تقديم إجابات تتجاوز الصواريخ والأسلحة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
عذراً التعليقات مغلقة