تراقب الشمس وهي تغيب معلنة نهاية النهار، جلست زلفة ذات الثلاثين ربيعاً تتأمل ذلك المشهد بجانب زوجها، وثديها الأيمن مدسوس في فم صغيرها، نفسه ذلك المنظر قبل النزوح، كانت تحرص على مشاهدته في منزلها السابق يومياً، بعد أن “تشطف” شرفة البيت، ثم تعد كأسا من العصير، كي تجلس مع زوجها، لكن الآن ثمة شيئاً ما ناقصاً عن السابق، ليس فقط الأزهار و الأشجار المحيطة بالمكان الماضي وإنما الإحساس بالأمان، ذاك الذي لم تجده بالقرب من شجرة الزيتون، الملاذ الأول خلال النزوح مع عائلتها، ثم فارقت ظلالها بعد أن طلب صاحب الأرض أجراً لمكوثهم تحتها.
حتى أجمل المنازل في “سرمدا” الملاذ الثاني ذي الأجور الباهظة، عجزت عن توفيره للساكنين الجدد، حتى استقر مركب النزوح بزلفة وعائلتها الصغيرة المكونة منها ومن زوجها وطفلين صغيرين، في منزل صغير بغرفة واحدة، داخله نوافذ مغطاة بستائر من قماش، ضمنه مطبخ صغير يفصلهما باب خشبي قديم مغلف بأكياس النايلون، وفي واحدة من الزوايا قطع مبعثرة من المنزل القديم، كفيلة برسم الابتسامة على وجه تلك المرأة ما إن يقع ناظرها عليها، إلا أنها قليلة للغاية مقارنة بالذي بقى في الموطن.
سكوت زلفة واحمرار عينيها على ما يشبه الشرفة في المنزل المضيف، نبهوا زوجها إلى الحزن المخيم عليها، ليحاول إخراجها مما هي فيه، فيفتح تطبيق الفيس بوك قاصدا صفحات النكت، إلا أنه قبل الوصول إليها، مر صدفة من بين المنشورات مقطع لعجوز من مدينة كفرنبل يودع بيته بحرارة، قائلاً:”بخاطرك يا هالدار”، فقالت له بكلمات متقطعة بصوت هادىء كبح جماح موجة من البكاء: “في حال عدنا.. إلى أين سنعود؟”، لم تكن رجولة ذلك الشاب سببا كافيا ليمسك دموعه أمامها، كما خلا قاموسه من مفردات يرتبها ليشكل جملة تتناسب مع سؤالها، فغادر المكان تاركا الجوال بصحبة زوجته.. وحيدة.
غبطت ذلك الرجل من أعماقها، إذ تسنت له الفرصة قبل الرحيل، أن يودع منزله مقبلا الجدران التي بناها بعرق جبينه، فسترته وسترت أسرته، في حين حرمت تلك المرأة منها، بعد أن اضطرت لترك البيت أثناء أذان العشاء عقب غارات من الطيران الحربي عليه وعلى البيوت المجاورة بعد وقت المغرب، خلال القصف احتوتها المغارة القريبة منه، مع أنها كانت أول مرة تختبىء فيها منذ أن حفروها قبل سنتين من الآن، لكن الخوف على الطفل ذي الأربع أشهر الممزوج مع بكاء ابنها ذو الستة أعوام، حرك قدميها دون وعي.
يومذاك.. لم تعلم ماذا حصل، لكن من شدة الضربة، انهارت المغارة بشكل جزئي فوقهم، ليسارعوا بالخروج منها بعد أن توقف القصف، استقلوا دراجة نارية إلى بيت أهلها في قرية مجاورة، أهلها الذين صدموا بمنظر عائلة ابنتهم التي بدا أفرادها لهم وكأنهم أموات خرجوا من مقبرة، فكانت أخر ذكرى لها مع المنزل، الذي لم يخبرها أحد عما حل به، إلا الحزن الذي ينتفض من وجه زوجها يوماً بعد يوم، كاتماً في قلبه الكلام، خوفاً على صحة امرأته المرضع.
كل ذلك لم يوقف الشوق في قلبها للمنزل من الإشتعال، دائما ما تتسلسل الذكريات في عقلها، على شكل لقطات من إخراج مخرج محترف، منذ أول مرة وضعت قدمها على عتبة المنزل، حين ألبست الأبيض كعروس، عندما كان البيت عبارة عن غرفة واحدة، ثم صار أربع غرف وشرفة واسعة مطلة على أرض صغيرة فيها ثلاث شجرات تين واثنتين ليمون وواحدة “أكيدنيا” مع اثنتين “عقابية” مع الورد الجوري والياسمين، مع عريشة العنب. وكان الثمن لذلك، عناء من غياب زوجها مسافرا إلى لبنان على فترات خلال عامين، مع بيع ذهب زلفة من مهرها، حتى استطاعت أن ترقد مع عائلتها بضع ليال بهناء تحت سقفه، ذلك المكان الذي تجد الدقيقة الواحدة في رحابه أثمن من كل الاتفاقات الدولية التي تجرى بخصوص آخر الأحداث في مناطقهم، لعدم جدواها.
تتجاهل تلك المشاعر وتتقلب بين الصفحات في كل من التلغرام والفيس بوك، ليجتاحها شعور بالغيظ كلما شاهدت منشورات الموالين التي تهلل للبراميل والصواريخ، مدعية أنها تستهدف أوكار الإرهابيين ومقرات جبهة النصرة، بغيظ وقهر تتابع بعض ما يكتبه الموالون في صفحات “محردة الآن” و “قوات الأسد في حماة”، وغيرها، ممن كذبوا الكذبة وصدقوها، تسترجع في ذاكرتها تفاصيل بيتها “الإرهابي”، من أكثر نقطة في داخله دفئاً إلى جمال الخارج، ترتيب غرفة الضيوف ورائحة المعطر الفواحة من الغرف بعد تنظيفه كل صباح، وخطواتها بينهم كالفراشة، حتى طعمة القهوة، إلا أن ذكرى القصف تصر على اقتحام ذاكرتها لتقضي على جميع ما يجول في بالها من ذكريات جميلة.
تتابع التصفح في نفس التطبيقات، وتشاهد بعينها من يوثق ويحصي بصدق وأمانة كاشفاً كل تلك الأكاذيب بالصور والفيديو والدراسات، بكاء الأطفال وصراخ النساء والدمار الذي عم المناطق مع الأشلاء، الأخبار وصلت إلى أقاصي الأرض، ومن تلك الإحصائيات واحدة منشورة على الشبكة السورية لحقوق الإنسان على التيلغرام، مشيرة إلى أن الطيران اعتدى على 29 منشأة طبية و60 مدرسة مع 38 دار عبادة بجانب 3 مخيمات منذ 26 نيسان/أبريل وحتى العاشر من حزيران من العام 2019 في منطقة خفض التصعيد، صوت داخلها حدثها: “لست وحيدة في الساحة”، إلا أن ذلك لم يخفف الألم في قلبها، والقهر من عدد القتلى والجرحى فاقم شعورها بالعجز والضعف، فنظرت في عيني وليدها، وتحمدت الله أنه بخير ووالده وأخوه، مع جميع فروع العائلة، أمام 352 ضحية من المدنيين، بينهم 9 أطفال و68 إمرأة، مع إصابة نحو ألف مدني بجراح، في نفس الإحصائية، واست نفسها قائلة: “بعد الروح كل شي بيتعوض”.
أرهقها التفكير الطويل والتنقل بين محطات ذكرياتها وقهرها.. أخذت نفسا عميقاً، قبل أن يتسلل إلى أذنها بلطف آذان العشاء متزامناً مع عودة زوجها مبتسما من الخارج، استقبلته بحنان وشوق، ودخلا معاً إلى البيت المتهالك وفي قلبيهما نبض بحلم العودة.. حتى ولو إلى الركام.
عذراً التعليقات مغلقة