* عمر إدلبي
جحيم غارات طائرات بوتين والأسد كان يشعل أرض حلب فيما يعقد المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا لقاءات طويلة مع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف والمبعوث الأميركي إلى سورية مايكل راتني في جنيف، بهدف الاتفاق على “خطوات عملية ملموسة” تضع تفاهمات كيري-لافروف على سكة التنفيذ العملي، وهي تفاهمات قيل إنها ترمي إلى إحراز تقدم في معضلة وقف العمليات القتالية وملف المساعدات الإنسانية، وجهود محاربة الإرهاب وعملية الانتقال السياسي في سوريا.
ولأن للثوار رأياً آخر فيما يتعلق بقلعتهم، حلب، فإنهم أرادوها جحيماً أيضاً، ولكن على رؤوس من ظنوا أنهم أحكموا الحصار على ثوار حلب، ولم يبق إلا تفاصيل صغيرة وينتهي الأمر باستسلام مذل، أو موت وتهجير للمدنيين قبل الثوار.
وإذا كانت رسائل الثوار من انتفاضتهم الأخيرة في حلب جاءت واضحة للغاية، فإنها ورغم وضوحها يجب أن تقرأ من كل الأطراف الداخلية والخارجية بتمعن، فالثوار في حلب أكدوا في انتصاراتهم الأخيرة لكل القوى الخارجية العدوة والصديقة أن كل مكاسب قوات الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين وميليشياتهم هي واقع مؤقت لا يمكنهم الحفاظ عليه طويلاً، وسرعان ما ينقضي وتعود الأرض إلى ثوارها، بمجرد تنظيم العمل الثوري العسكري، وتوحيد الجهود، وبالتالي فإنه على من يراهن على إعادة الثورة إلى بيت طاعة الأسد أن يعيد حساباته.
وفي الانتصارات الأخيرة رسالة إلى قادة فصائل الجبهات النائمة، ولا سيما في الجبهة الجنوبية، تؤكد أن الصبر على استكانتهم للتعليمات الخارجية – إن صدقوا – صار غير ممكن، فالانتصارات تجبر الجميع على احترام إرادة المنتصر، لا المستكين ولا الضعيف.
وفيما يخص الحراك الدولي.. فإن البطء الذي تتسم به جهود مجموعة الاتصال الدولية بخصوص سوريا، وعلى رأسها طبعاً روسيا والولايات المتحدة، بات أكثر من واضح، بل ومفضوح أيضاً، فهو يمنح الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين، ومعهم الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، وقتاً وفرصة تلو الفرصة لتغيير الواقع الميداني، خاصة في حلب وريف دمشق، ويبدو المحور عازماً على استغلال جملة عوامل مواتية للتقدم وكسب المزيد من أوراق القوة في جولة المحادثات في جينيف التي باتت على الأبواب.
كتائب الثوار والفصائل الإسلامية في حلب بدت قبل أيام من انتفاضتها في أوهن حالاتها، وهي تواجه هجوماً شرساً تصده فيقوى، ما أظهر ضعفاً خطيراً في صفوفها، سواء على صعيد التنسيق في العمليات فيما بينها، أم على صعيد التذخير الذي تحتاجه لصد الحملة الواسعة من قوات الأسد وحلفائها، أم على صعيد القدرة اللوجستية على المناورة على الأرض، خاصة مع التحرك الواسع الذي أطلقته الميليشيات الكردية ضد فصائل حلب، ما أوقع هذه الفصائل بين فكي كماشة، وتسبب في خسارتها مواقع عسكرية استراتيجية لصالح هذه الميليشيات، كما لصالح قوات الأسد، وأدى إلى قطع كامل لخطوط إمدادها وحصار الأحياء الشرقية من حلب، جراء فقدانها السيطرة على طريق الكاستيلو الاستراتيجي.
والبوابة التركية مغلقة أو تكاد، في ظل انشغال الحكومة التركية بعملية التطهير الواسعة لمؤسسات الدولة من فلول الانقلابيين، ويفسر البعض هذا التغاضي التركي عما يحصل في حلب بأنه ناتج تفاهمات روسية تركية، تمهد لإعادة تموضع تركي في قضايا المنطقة، وبالتحديد في الملف السوري الذي فتح على تركيا باب الجحيم في المسألة الكردية.
أما إدارة أوباما فهي اليوم في موقع المراقب الذي لا يشعر بالقلق من انفراد روسيا في تحديد معالم الصراع والتسوية المرتقبة، فالإدارة الأمريكية الحالية عازمة على ترحيل ملفات المنطقة برمتها إلى الإدارة القادمة، وما تركز عليه الآن ليس أكثر من إحراز انتصارات، ليست حاسمة بالضرورة، في ملف وحيد، هو ملف الحرب على “داعش”، تمنح زخماً مسانداً لحملة المرشحة الديمقراطية إلى الرئاسة، هيلاري كلينتون.
أما “أصدقاء” الثورة السورية العرب، فلا يعثر لهم على حضور مؤثر في ظل هذه المعطيات إلا انتظارهم القادم الأمريكي، والتعويل حتى ذلك الوقت على إحراز تقدم في جهود وقف الأعمال القتالية وتجميد الجبهات، وإقناع بوتين بالضغط على الإيرانيين والأسد للانخراط في جهود التسوية السياسية، وتخفيف فاتورة الدم، وهي محاولات تبدو يائسة وفي غير محلها، إذا لا شيء إلا بنادق الثوار يقنع الأسد بالذهاب على تسوية تنهي نظامه بالمحصلة، ولا شيء يمنع القيادة الإيرانية من الذهاب بعيداً في مشروعها في سوريا وهي تجد دعماً، بل تحالفاً وطيداً من الأمريكان معها في حربها المفتوحة على المناطق السنية في العراق بذريعة مكافحة إرهاب “داعش”.
وأمام هذه المعطيات بدت معركة حلب بالنسبة لنظام الأسد وحلفائه أكثر من مجرد تسخين عسكري لتحقيق تفوق سياسي في جولة المحادثات القادمة، إنها بكل وضوح محاولة حسم عسكري، عبر إحكام السيطرة على محاور مفصلية ومواقع استراتيجية تفضي إلى حصار كتائب الثوار والفصائل الإسلامية في مناطق يسهل قضمها لاحقاً بعد قطع خطوط الإمداد عنها، وإفراغها من مدنييها لتسهيل تسويتها بالأرض، وإعادة احتلالها بسياسة الأرض المحروقة، وهي سياسة نجحت في غير موقع، كما حصل في مدينة القصير وأحياء حمص القديمة ويبرود، ولاحقاً في تدمر، ومؤخراً في مرج السلطان وميدعا وغيرها من مناطق الغوطة الشرقية، وهذه الرغبة بالحسم العسكري كان لا بد أن تواجه بالعمل العسكري، وهو ما فهمه الثوار في حلب، وردوا عليه الرد المناسب.
الصورة باتت أكثر من واضحة، استراتيجية روسيا وإيران والأسد في هذه المرحلة لا تثير أي شكوك بحقيقة أنها محاولة حسم عسكري جادة، والأصوات بدأت تعلو محذرة من تنفيذ محموم لهذه الاستراتيجية لا يقيم وزناً لأي كارثة إنسانية قد يخلفه التصعيد العسكري.
وفي هذا السياق عبرت صحيفة “بيلد” الألمانية في مقال لها عن واقع الحال بتسميتها استراتيجية الأسد وروسيا بأنها “فخ” وقع فيه الغرب بما في ذلك ألمانيا، وتوضح الصحيفة في مقالها أن الآلاف ماتوا في سوريا منذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ إسمياً في 27 شباط فبراير الماضي، ولم ينفذ فعلياً ولم تلتزم به قوات الأسد وحلفاؤها الروس والإيرانيون، وهو ما يجعل من الاتفاق، حسب وصف الصحيفة “خدعة” من الأسد وحلفائه لجني مكاسب عسكرية على جبهات الثوار وليس ضد تنظيم “داعش” فحسب.
وتؤكد الصحيفة أن الخدعة مرت على الغرب، وأشارت الصحيفة إلى تغريدة على تويتر للبعثة الفرنسية في الأمم المتحدة، تقول إن “اتفاق وقف إطلاق النار كان ذريعة من النظام السوري وحلفائه للتغطية على استراتيجيتهم العسكرية”، وذكرت الصحيفة بتصريح للسفير البريطاني يقول فيه: “الانتهاكات المتواصلة من الأسد لاتفاق وقف إطلاق النار فيها إهانة لمجلس الأمن”.
وأمام هذه المعطيات لم يكن أمام فصائل الثورة السورية، إلا الهجوم، ومغادرة المواقع الدفاعية، وحسناً فعلت في إطلاق معركة على الجبهات الجنوبية في حلب، بدل الهجوم على مواقع الأسد وحلفائه في طريق الكاستيلو الذي أحكمت هذه القوات سيطرتها عليه وحصنت مواقعها هناك بشكل كبير، وكانت مفاجأة الثوار والفصائل الإسلامية بتحريرها مواقع مهمة في الجنوب من حلب مفاجأة صاعقة للأسد وحلفائه، حيث أمكن للثوار حتى الآن الاقتراب كثيراً من فك الحصار عن الأحياء الشرقية من بوابة الجنوب لا الشمال.
وتبدو مهمة المعارضة السياسية في هذه المرحلة صعبة للغاية، رغم تعزيز موقفها بهذه الانتصارات الجديدة، فهي مطالبة بكثير من الحزم في التعاطي مع هذا التراخي الدولي تجاه التصعيد العسكري لنظام الأسد وحلفائه، ومواجهة الخداع الروسي المتواصل، والانفلات الإيراني عبر الميليشيات الشيعية، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، والإعلان بوضوح أن روسيا لا تصلح طرفاً في العملية السياسية الرامية إلى إيجاد تسوية، ما دامت طرفاً عسكرياً متورطاً بكل حزم إلى جانب الأسد ضد الثوار، وأن إيران قوة احتلال بجنودها وميليشياتها، وأن هذا الواقع يحتاج موقفاً أكثر وضوحاً من قبل “أصدقاء الثورة” في العواصم العربية وأنقرة، يدعم الثورة بما تحتاجه لاستعادة زمام المبادرة، أو تعلن عجزها عن مواجهة التغول الروسي والإيراني في سوريا.
وبوسع المعارضة السياسية أن تقوي موقفها هذا وتكون أكثر صلابة بالاستناد إلى صلابة الثوار والشعب السوري الذي قدم صورة مدهشة في تلاحمه ومقاومته المدنية التي ساندت فصائل الثورة في هجومها الأخير في حلب، ومن يمتلك شعباً وثواراً كهؤلاء .. حق له أن يفخر بهم، ويواجه بكل صلابة محاولات تطويع الثورة وكسر إرادة ثوارها بحلول سياسية مراوغة ومخيبة لآمال السوريين بعد سنوات مضنية من التضحيات والصبر والوفاء لأهداف الثورة.
Sorry Comments are closed