القلب
قصة للأديب السوري خالد أحمد شبيب
إلى محمد اليحيائي
ارتجف الجندي المقيّد إلى سرير الجراحة في المستشفى العسكري. أدرك أنّ الشّمس البيضاء الّتي تقبع فوق رأسه مزيّفة، وأنّ صدرَه لا يكابد نوبة عشق كما ظنّ في البداية. كانت هناك سكين حادّة تشقّ صدره ببرودة الثلج، فاحتجّ بهلع:
ــ ما الّذي تفعله؟
لكنّ الطبيب غضّن تفاصيل وجهه تحت الكمّامة القماشية وأشاح عنه بلا إكتراث. رفع قلبه المضرّج بدمٍ حار وألقمه إلى صدر مفتوح كفم كبير على سرير مجاور. التهم ذلك الصدرُ القلبَ الجديد ومضغه بصمت، ثم ارتعد صاحبه وخمد جسده من جديد.
ــ لكنْ.. هذا القلب لي..!!
ــ كان عليك أن تنفذ الأوامر..لقد أطلقت في الاتجاه المعاكس.
ــ لكنهم ..كانوا يهتفون.. ويغنون للحياة ولشوارع المدينة.
ــ خونة..كلّكم.
انطفأت الشّمس المزيفة فجأة، واشتعل البهو الذي انزلق فيه السرير الآخر مبتعداً. أُغلق الباب وحلّ ظلام دامس، لكن صوت أنينٍ خافت ظلّ يتردد في الغرفة الكئيبة.
أفاق الضّابط في غرفته أخيراً ونزع قناع التنفس عن وجهه، لكن إحساساً غريباً داهمه. استهجن صوت الأغنيّة التي نبضت في رأسه لكنه لم يعرف مصدرها. استطلع المكان بعينين مرتابتين، فلم يرَ غير وجه مصطنع غطّاه مسحوق أبيض وأحمر شفاه صارخ. ودّ لو يبتسم ويلقي على الممرضة المترقبة تحيّة الصباح.. أو المساء، لكنه قاوم تلك الرغبة الغريبة وقرر أن يصرخ بفظاظة تليق به.
هرعت الممرضة مسرعة نحو الخارج كسيارة إسعاف تصيح صافرتها بإلحاح: (أين الطبيب؟!..أين الطبيب؟!).
استقوى الطبيب بصور الأشعة والتقارير والتحاليل الطبية ليثبت للضابط أنّ جراحه التأمت، وأنه تعافى تماماً خلال المدة الطويلة التي قضاها فاقداً الوعي.
ــ كان يمكن أن تغادر المستشفى منذ وقت طويل، لكننا…أجّلنا الأمر خوفاً عليك.
ــ ماذا تقصد؟
طردَ الطبيبُ وجهَ الممرضة المصطنع خارجاً وهمس في أذن الضابط:
ــ كنت تهذي باسم امرأة ما، تصف شَعراً قمحيّ اللون وعينينِ بحريتين و…
راحت ابتسامة غادرة تطفو على وجه الضابط، لكنه أغرقها بعصبية وأصغى قلقاً إلى الطبيب.
ــ ..سمعناك تغنّي..طبعاً بلا وعي..فأوصدنا الباب والنوافذ.
ــ كاذب!
ــ من يصدق أن يغنّي سيادتكم كأولئك الخونة في الشارع؟ ربما هو تأثير العصافير الغبية، مع أننا وضعنا زجاجاً سميكاً على النوافذ!
عبثت نسمة جبلية بشعر الضابط، وكاد يستنشق عبق الأزهار البرية ويسمع خرير النهر، لكنه انتبه، وطرد ذلك الوهم كذبابة مزعجة لم يعرف كيف اقتحمت غرفته.
ــ …فقررنا .. أن نضع لك قناع الأكسجين، ونبقيك تحت التخدير حتى نجِد حلاً. من المفترض أن تكون نائماً..كيف أفقت! ربما انتهى مفعول التخدير.
سدّد الضابط بصره نحو الطبيب وانتفض بغضب كأنّ ثعباناً لدغه من داخله.
ــ لكنْ..لماذا..لماذا لم تُزِلها؟
ــ لقد أزلناها، واستبدلنا الـ…. انظر الى صور الأشعة هذه.. كل شيء ممتاز..تستطيع الرجوع إلى عملك قريباً..كل شي ممتاز..الدم ..التنفس..الـ….
غاب وجه الطبيب وراء سحابة من الكلمات، وارتعد الضابط، وعاد صوت الأغنيّة الدافئ يقضّ مضجعهّ. أحسّ أنّ عيناً واسعة تنظر إليه من السماء فيبدو لها كذرّة ملح تحت المطر. كان هناك شيء غريب وملغز يحدث له. خيّل له أن جدران الغرفة البيضاء تنزّ منها خيوط دمٍ غزيرة، وشعر لأول مرّة في حياته العسكرية برغبة في البكاء. خنق تلك الرغبة وتلوّى ألماً مجدداً. حدّق في الطبيب بعجز مستجدياً المساعدة، لكنّ وجهه ظل مبهماً بلا ملامح. أراد أن يشرح له أنها ما زالت هناك..تلك الرصاصة الخائنة.. إنه يشعر بها كأنها اخترقت جسده للتو بدل أن تتجه نحو الحشود في الشارع..كانت كبيرة وساخنة كنار ملتهبة..إنها تتحرك الآن وتكاد تشقّ صدره الضيّق.
الأديب خالد أحمد شبيب في سطور:
- قاص سوري من مواليد قرية تيرمعله في محافظة حمص في العام 1982.
- حاصل على إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، ويعمل مدرساً في الكويت.
- حصل على عدة جوائز سورية في القصة القصيرة، منها جائزة اتحاد الكتاب العرب وجائزة ربيع الأدب، وجائزة حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، كما حصل على جائزة نيستبي في دراسة الأدب الأمريكي في العام 2005، وجائزة مسابقة مجلة العربي وراديو مونت كارلو في القصة.
-
- ينشر نصوصه القصصية والمقالات في دوريات ومواقع الكترونية عربية، ولديه مخطوطان لمجموعتين قصصيتين، غير منشورين.
عذراً التعليقات مغلقة