من الإجحاف التركيز فقط على عوامل داخلية ذاتية أو موضوعية في تفسير الحال المأساوية التي وصلت إليها الثورة السورية؛ ويجب تسليط الضوء على الأدوار الخطيرة التي لعبتها سيناريوهات مدبرة لوأد الثورة سواء من نظام الأسد أو أطراف خارجية؛ دون أي حرج أو تخوف من إدراج ذلك ضمن نظرية المؤامرة.
انطلق الحراك السوري بزخم قوي ومفاجئ لنظام الأسد؛ وهو ما جعله يرفض تقديم أي تنازلات خشية تكرار سيناريوهات الهروب أو التنحي التونسي ثم المصري، وانتقل لمواجهات عنيفة مباشرة لإيقاف المد الثوري عبر الحل الأمني ثم العسكري، كما رسم خطة طويلة الأجل لحرف الثورة عن مسارها ثم القضاء عليها؛ عبرت بثينة شعبان عن خطوطها العامة بعد أيام فقط من اندلاع الثورة، رغم أن الحراك بقي سلمياً عدة أشهر باعتراف الجميع، إلا أن شعبان تحدثت عن عسكرة الثورة وصراعات طائفية ومشاركة جهاديين وتكوين إمارات إسلامية وكأنها تتحدث عن واقع يتمناه النظام ويسعى لرسمه على أرض الواقع، وبدأ النظام تنفيذ ذلك مع إطلاق سراح السجناء الإسلاميين لديه واعتقال وتصفية الناشطين السلميين، ومن ثم دفع الحراك قسراً نحو العسكرة أولاً ثم التطرف والتشدد فيما بعد.
فتحت الجغرافيا السياسية السورية المعقدة الباب أمام تدخلات خارجية إقليمية ودولية، ومن ثم ظهور استقطاب واسع سواء باتجاه دعم الثورة أو معسكر نظام الأسد، لكن الدعم الدولي القوي للثورة في بداياتها أوقع المعارضة في خديعة ثم صدمة كبرى؛ فقد فشلت في فهم معادلة أولوية المصالح القومية على المبادئ الإنسانية، وجرى اصطفاف إقليمي ودولي توزعت فيه الدول إلى معسكرين متصارعين في الملف السوري، يحكم ذلك ثنائيات الخلافات والمصالح بالدرجة الأولى.
عندما برز احتمال سقوط وشيك لنظام الأسد تحت ضغط الحراك الشعبي المتصاعد؛ شكل ذلك هاجساً إقليمياً ودولياً؛ بسبب عدم اتضاح صورة وشكل النظام القادم في سورية، إضافة للخشية من عدم تعويض الدور الوظيفي الهام الذي لعبه نظام الأسد في تحقيق توازن واستقرار خلال عقود في منطقة الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على أمن اسرائيل بالدرجة الأولى، التي كان موقفها حاسماً في إجهاض الثورة السورية ومنع انتصارها، حيث استطاعت تكوين حالة غريبة من خلال نفوذها الدولي الواسع، من خلال التوفيق في المصالح بين القطبين الأمريكي الغربي مع الروسي على الأراضي السورية، ومنع حدوث أي صدامات مباشرة بينهما.
من الطبيعي أن النظام حصل على دعم واضح وقوي من حلفائه، وفوق ذلك حصل على ما لزمه من مهل زمنية إضافية في الأوقات الحرجة وعند ضعفه واحتمال سقوطه، لكن الغريب مشاركة دول ضد نظام الأسد في ذلك التعويم؛ حيث كان يتم تمرير ذلك تحت غطاء المنظمات الإقليمية والدولية وجلسات مجلس الأمن الفارغة والمبعوثين والمندوبين ولجان التحقيق الدولية.
رغم أنها كانت في أوج قوتها إلا أن المعارضة وقعت في خطأ قاتل عندما قبلت الدخول في عملية تفاوضية مع النظام من خلال مسار جنيف، رغم عدم اقتناعها بجدوى التفاوض مع النظام أو تحقيق أي نتائج من خلال ذلك، ولم يكن جنيف عملياً سوى مصيدة لإضاعة مزيد من الوقت وخفض سقف المطالب والتوقعات من الحل السياسي، وأعلن الجعفري في جلسات جنيف أن الهدف الأول المشترك هو محاربة الإرهاب.
جاء مسار أستانا لتعويض توقف جنيف، وبغية استكمال تطويع الفصائل المسلحة من خلال اتفاقيات خفض التصعيد التي منحت النظام مكاسب ميدانية واسعة، وأضيف لذلك خفض جديد في سقف المطالب السياسية التي وصلت حد القبول بتشكيل لجنة دستورية ثم إجراء انتخابات دون التطرق لمصير الأسد والنظام أو حتى مجرد الحديث عن ضرورة العدالة الانتقالية.
حديث السوريين عن سيناريوهات مدبرة لاغتيال ثورتهم لا يعني استكانة وخضوعاً أو دعوة للمظلومية وقبولاً بها، ولا حتى الوقوع تحت تأثير نظرية المؤامرة؛ فقد باتت الوقائع والأدلة لدى السوريين أكثر مما يحتاجه توثيق جريمة العصر التي ارتكبت بحق الشعب السوري بغطاء وصمت ودولي.
ارتكب السوريون خطأ فادحاً عندما صدقوا خرافة قدوم الربيع العربي على أرض قاحلة؛ كان عليهم البدء بتقليب التربة العفنة رأساً على عقب، ثم اقتلاع الجذور الفاسدة ونثر بذور صالحة وانتظار الحصاد الطيب، ويعني ذلك أن الأنظمة الديكتاتورية لا يقتلعها من جذورها سوى الثورة، بكل ما تحمله من معاني حمراء قانية.
عذراً التعليقات مغلقة