عادت ثورات الشعوب العربية تضرب بقوة من جديد مع مظاهرات شعبية عارمة؛ خلال أسبوع مضى سقط الرئيس بوتفليقة في الجزائر؛ ثم أعقبه سقوط الرئيس السوداني عمر البشير وخلفه عوض بن عوف بعد ساعات من استلامه رئاسة المجلس العسكري الذي أطاح بالبشير.
قبل سقوط بوتفليقة والبشير أطاح الربيع العربي بالرئيس التونسي بن علي والمصري مبارك عزلاً والليبي القذافي واليمني صالح قتلاً؛ لكن حصاد الشعوب من ثوراتها لا يزال مراً وقاسياً حتى الآن بفعل المأسي والكوارث الإنسانية التي سببتها في سوريا واليمن وليبيا وعودة حكم العسكر لمصر؛ وهناك مخاوف لأن عملية الانتقال والتغيير في الجزائر والسودان تجري بقيادة رجال العسكر أبناء الأنظمة الديكتاتورية نفسها؛ وهو يعطي إشارات سيئة لا تدعو للتفاؤل المطلق بانتقال حقيقي مباشر أو قريب؛ ومع أن تونس شرارة الربيع العربي حصلت بالفعل على انتقال سياسي ديمقراطي بعد مخاض عسير؛ لكن التجربة الديمقراطية فيها لا تزال غضة وعرضة للمخاطر؛ بينما تعيش الثورة السورية حالة خاصة استثنائية؛ سواء في حجم التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب السوري جراء مواجهة جيش النظام وأجهزة مخابراته والميليشيات الطائفية والقوى الأجنبية التي استدعاها؛ أو من خلال استمرار نظام الأسد مع محاولات تعويمه إقليمياً ودولياً رغم كل الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري.
أعاد حراك الجزائر والسودان الأخير الأمل باستمرار قطار الربيع العربي وعدم توقفه سوى في محطة التغيير الجذري رغم ما يبدو من حصاده الهزيل والمر؛ وحفلت مظاهرات الجزائر والسودان بالجديد والجميل من خلال سلميتها وتعاطي الجيش والأجهزة الأمنية معها بشكل ناعم وعدم مواجهتها بالعنف حتى الآن على الأقل؛ الأمر الذي قد يكون بسبب ضغوط خارجية تعرضت لها الأنظمة وليس جراء دوافع وطنية بحتة؛ ورغم اندلاع الربيع العربي من تونس في العام 2010 إلا أن الكثير من السمات العامة للحراك لم تتطور بشكل واضح ومن أبرزها التالية:
- لا يزال الحراك الشعبي متقدماً على العمل السياسي للمعارضة ومنظماتها التي تحاول اللحاق به وتأطيره وقيادته؛ وقد يستطيع تجمع المهنيين قيادة الحراك في السودان لبر الأمان.
- لم تقدم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني برامج وتصورات واضحة عن مرحلة انتقالية تجري بسلاسة وأمان تلي إسقاط الأنظمة العسكرية.
- إسقاط رأس النظام لا يعني نهاية النظام رغم الأهمية المعنوية والرمزية لذلك؛ فقد حصل الرئيس المخلوع مبارك على البراءة وخرج من سجنه وعاد العسكر للحكم من جديد في مصر؛ بينما يقود تونس رموز من النظام السابق؛ وهو ما يفرض على الشعوب إكمال الثورات حتى النهاية حتى إسقاط كافة مكونات الأنظمة ورموزها وعدم الاكتفاء بنصف ثورة.
- تتحكم الجيوش والأجهزة الأمنية والمخابراتية وما يسمى الدولة العميقة بالقرار السيادي وتسيطر على كافة مؤسسات وأجهزة الدولة ومقدراتها؛ وهو ما يعني صعوبة معركة التغيير واستمرارها لفترة طويلة وعدم توقع إنجازها بمجرد إسقاط الأنظمة.
- تراجع دور المشايخ ورجال الدين عن قيادة حراك الجزائر والسودان وهو أمر إيجابي لتجنب أسلمة الثورات وإبعاد خطر التطرف والإرهاب عنها؛ وترافق ذلك مع تزايد دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني؛ وكذلك غياب الانقسام المجتمعي الحاد بين مؤيد ومعارض للنظام.
- يجري دعم الثورات المضادة للربيع العربي تحت غطاء محاربة الإرهاب والإسلاميين وخاصة الإخوان المسلمين؛ وتقوم بذلك الدور دول ما يسمى محور الشر العربي التي تضم السعودية ومصر والإمارات بشكل أساسي؛ وقد ظهرت بوضوح في مظاهرات الجزائر والسودان لافتات وشعارات تندد بدور تلك الدول وتدخلاتها في الشؤون الداخلية؛ وكرس ذلك أيضاً حالة سيئة غير مسبوقة من الضعف والتشرذم في المنظومة العربية.
- وقع الإعلام العربي تحت حالة من الاستقطاب مرتبطة بمواقف وأجندات الدول الممولة والداعمة؛ وهو ما أفقده المهنية والمصداقية والدور الإيجابي الذي لعبه عند انطلاقة الربيع العربي.
- انكشف ارتهان الأنظمة العربية للخارج وغياب أجندتها الوطنية؛ وقد فرط نظام الأسد بالاستقلال والسيادة الوطنية وقام بتدمير البلاد لضمان البقاء في السلطة؛ واستفادت “اسرائيل” من تلك الحالة لتمرير التطبيع معها والتحضير لصفقة القرن التي ينوي الرئيس الأمريكي الإعلان عنها قريباً.
- تراوح المواقف الشعبية من الربيع العربي بين حالة من الترقب والانتظار في تونس؛ إلى نوع من الإحباط والقنوط في سورية وليبيا واليمن؛ وشكل من الاستسلام الظاهر في مصر؛ مع استمرار التحفز والأمل في حراك الجزائر والسودان الذي لا يزال وليداً.
معروف أن مسار التغيير في المجتمعات طويل وشاق؛ ويجب إكمال الثورات حتى إنجاز كامل مهامها دون التوقف في منتصف الطريق؛ والمبشر في حراك الجزائر والسودان أنه يؤكد استمرار الموجات الثورية العربية في مواجهة الثورات المضادة؛ عدا أن ظهور حالة واسعة من التعاطف والتفاعل الشعبي العربي معه تشي بولادة عربية جديدة تحمل عناوين وعي جمعي عربي ثوري.
عذراً التعليقات مغلقة