“لم أستطع تمييز أمي في الوهلة الأولى بعد نزولها من الحافلة برفقة إخوتي الصغار الأربعة، بسبب السمار المفاجىء الذي غزا وجهها، مع غبار كثيف كسا عباءتها السوداء الطويلة التي أمست فضفاضة للغاية، لتفضح المشقة التي التهمت وزناً ملحوظاً من جسدها خلال محاولة الدخول إلى تركيا تهريبا عن طريق خربة الجوز.. خطت نحوي بهدوء لابسة برجليها حذاء ممزقاً، مملوء بالطين، وهي تتأوه واضعة يدها على خصرها، أما إخوتي فكانوا في منظر يرثى له، فأدرت وجهي مسارعة إلى الغرفة كي لا تلمح الدموع التي انهمرت من عيني إثر رؤيتهم في تلك الحالة”.
هكذا بدأت سمر حديثها لنا عن قصة أمها التي حاولت دخول الأراضي التركية بطريقة غير شرعية.
أم سمر، إمرأة ذات 45 عاما، تعيش في آخر ريف إدلب الجنوبي مع أربعة أطفال وفتاة شابة، ترملت تلك المرأة قبل ثلاث سنوات، عقب غارة من الطيران الحربي الروسي على محل الحلاقة الذي كان زوجها يكسب قوت يومه منه، فمات بسبب الشظايا التي أصابت رأسه و بطنه، ما أبقاها وحيدة في ساحة مصاعب الحياة، بما فيها من قصف وصعوبة في تأمين لقمة العيش، فغدت مخيمات تركيا أمام معاناتها الوجهة الوحيدة للخلاص من قسوة معيشتها.
حلّان.. أحلاهما مر
تروي لنا أم سمر حكايتها بذكر أسباب السفر إلى تركيا قائلة: “شو جبرك ع المرّ غير الأمرّ”، وتكمل:”أوصلتنا الحرب لوضع لا يطاق، حيث لا فرصة عمل نحصل من خلالها على ما يسد الرمق، ولا مساعدات تخفف عنا الأعباء المادية المفروضة علينا كل يوم، إلى جانب ما خلفته من نزوح و غلاء وغير ذلك من الظروف الإقتصادية المتردية، في حين أن كل ذلك بكفة وسوء الوضع الأمني بكفة أخرى، حيث نستيقط على أصوات القذائف، ثم ننام على غارات الطيران، بالتزامن مع الخوف على أطفالي الذي ازداد في قلبي عقب موت زوجي، ليلازمني بشكل يومي سؤال لنفسي: (ما ذنبهم حتى يحرموا من العيش بسلام) لذلك عزمت على الرحيل”.
الطريق إلى تركيا بشكل نظامي مغلق منذ آذار مارس 2015، لعدم قدرة تركيا على استيعاب المزيد من اللاجئين الذين بلغ عددهم على أرضها منذ ذلك الحين أكثر من 2.5 مليون لاجئ وفق تقرير صحفي صدر في 10 شباط/فبراير 2016، كما كان هناك خوف من الدولة المضيفة على شعبها من دخول عناصر من جماعة تنظيم الدولة أو من المنظمات الكردية المعادية لتركيا.
العبور من منافذ التهريب كان الطريق الوحيد أمام تلك الأرملة، لتسارع بالإتصال مع أحد المهربين، وتكشف أم سمر لـ “حرية برس” رأيها بالمهربين: “95ٌ% منهم كذابين، لا يخافون الله، أو بالأحرى الضمير والصدق غائب عن قاموسهم، إذ يستغلون حاجتنا للسفر، من أجل أن يتقاضوا مبالغ باهظة من المال”.
وتوضح أم سمر ما جرى بينها وبين المهرب: “عمل لي البحر طحينة، خاطبني بلهجة سريعة بكلمات متلاصقة مع بعضها البعض، دون أن يفسح لي المجال لمناقشته بشيء، ومن ضمن كلامه، قال لي: الطريق سهل وبغضون ساعات قليلة من المشي ستكونين مع أطفالك ضمن الأراضي التركية، لكن بالبداية عليك الإنتظار حتى قدوم الليل في مكان جيد ومتوفر فيه جميع ما يلزمكم من احتياجات، ثم أغلق الخط بحجة أن كثيراً من الناس تنتظره بغرض التهريب، فما كان مني إلا أن أقتنعت، ووافقت على السعر الباهظ الذي طلبه، 1500 دولار، وفي اليوم التالي انطلقت مع أطفالي دون سمر التي لم تستطع أن تترك جامعتها”.
حجرة الانتظار
أم سمر تروي معاناتها في مكان الانتظار ريثما يتحرك بهم المهرب نحو الحدود، فتقول: “جلسنا على أطراف قرية خربة الجوز، في قبو ذي غرفتين، واحدة للرجال وأخرى للنساء مع أطفالهن، كلتاهما غير مخدمة بأي شي، لا كهرباء ولا ماء، كما كانتا تعجان بالناس، الذين وعدوا بإقامة جيدة في خربة الجوز قبل المجيء، علاوة على ذلك مكاننا بعيد جدا عن أسواق المواد الغذائية و البضائع، فكنا نقتات على المعلبات”.
محاولة اجتياز الحدود مغامرة تكلفك الكثير
وعن رحلة العبور الشاقة تتحدث أم سمر: “مع حلول الليل، بعد أن أقسم لنا المهرب بأن الطريق “مشترى” أي أنه دفع مالاً من أجل تأمينه للتهريب، انطلقت مع مجموعة من الناس، شاب وفتاة متزوجين حديثا، إمرأة بصحبة ابنتها الصبية، بالإضافة لشابين ورجل أربعيني، بقيادة دلّال (الذي يتعامل مع المهرب) ليرشدنا إلى الطريق، الذي كان طويلا للغاية، مشينا في أجواء مظلمة تتمازج فيها أصوات نباح كلاب الجندرمة، بدقات قلوبنا المتزايدة نظراً لما في المكان من وحشة، حيث الأودية العميقة التي سجلت ضمن مذاكرتها أسماء ومواصفات أجساد سورية فارقت الحياة في جوفها بعدما اختارت تلك الوجهة، بيد أننا لم نكترث بل مضينا حتى تمزقت أحذيتنا، وسال الدم من الأرجل”.
وتضيف أم سمر: “حين وصلنا إلى الجبال، وصرنا نصعدها، كنت منهكة جدا، لكني كنت أتحامل على التعب إلى حين صدمت بسقوط ابني ذي الست أعوام، وبدأ بالبكاء من الألم، فندمت على اللحظة التي أتخذت فيها قرار السفر، الذي وضع أطفالي بمثل هذه المحنة، لكنني لم أستطع التراجع، على الفور حمله الرجل الأربعيني على ظهره وتابعنا حتى قطعنا منتصف الطريق، فجأة تمت إحاطتنا بمجموعة من الجندرمة مسلطين علينا أضواء الأبيال، ثم انهالوا على الشباب بالضرب حتى كسروا عظامهم، دون أن يلمسوا الأطفال والنساء في مجموعتنا، وحتى هذه اللحظة لا يزال في بالي أصوات صراخ الرجال تحت الضرب، وصوت بكاء صغاري”.
وتنهي أم سمر حكاية فشل محاولتها العبور القاسي: “عدنا بعد ذلك إلى القبو، واتصلنا بالمهرب، وحكينا له ما حصل، فادعى أن هناك مشاكل حصلت، ولم يذكرها لنا، طالبا منا الصبر والمحاولة مرة أخرى، لنحاول بعدها 9 مرات أخرى، كللت بالفشل، حتى تسببت الإقامة السيئة في القبو و سوء التغذية بالمرض لأطفالي، فتلاشت قدرتي على تحمل المزيد، فعدت إلى القرية خائبة الآمال”.
عذراً التعليقات مغلقة