تُدجّن المجتمعات ذات البنية العسكريّة أفراد الشّعب وفق قوانين من شريعتها المزعومة، والّتي تُستمد عادة من توجّه العناية العامّة للنظام الحاكم بخطوط ومحظورات يمنع المساس أو التحدث بها مهما كان الأمر، وعلى حين تصبح تلك الحدود الناريّة فرصة لتقوية “السّلطة” في بنيتها العميقة، الأقرب إلى تكتل موزّع على عدد كبير من القتلة، وهم على استعداد لسحق الآخر عندما يكون ضد اعتباراتهم الأمنيّة، ويستخدم هؤلاء شمّاعة الأعداء في كلّ حين، بوصفهم يقفون ضدّ عدونا “المُشترك” نحن الشعب وهم النظام. وفي أحس الأحوال يحتفظون بحق الردّ (…) وتراهم -أي الأعداء- ينسّقون مع حلفاء هذه “السلطة” من أجل قصف واستهداف البلاد ضمن حدودٍ سياديّة واضحة وهي استهداف “المقاومة والممانعة” مثلاً!
وتبعاً للتّحكم بمدى الجهل العام المُتفاقم في مخيلة الشعوب عن أن “الزعيم” هو صاحب المُعجزات الّذي تهبط عليه البركات من العلياء، فإن جيشاً من الحمقى والوحوش يكون في خدمة هذه البنية الّتي تضع ربطة عنق حديديّة منقوش عليها شعارات “وطنيّة” تكرسها كأنّها الجهة الوحيدة في البلاد الّتي يحق لها ما لا يحق لغيرها من الشّعب، حتّى لو كان ذلك يشرعن الظلم والفساد والفوضى والتخلص من أيّ شخص يفكر.
وبناءً على ذلك يمكن أنّ تسمّى تلك البنية بـ”العصابة” الآخذة لشكل أجهزة قمع سياسيّة واجتماعيّة تتفنّن في تعذيب البشر الرّفضين للطغيان والقهر، البشر الّذين هم في طبيعة الحال، ليسوا أعداءً، إنّهم أبناء ذات البلد الّتي نصّبت العصابة نفسها وبطشها “زعيمة” عليهم عبر استثمار حاجات البسطاء والسذّج من الناس والمساكين، هؤلاء أعمت بصيرتهم تبعات الخوف والرضى بالصمت أمام مقصلة مرسومة في وجه “الزعيم” وعلى كل الأبنية والهيئات الحاملة للصفات “الرسمية” في الهيمنة على تسيير أمور الرعية.
ومن هنا يستخدم مفهوم الترهيب لتكريس سطوة هذه العصابة، وتزداد السجون الّتي تربّي فيها أعداداً لا بأس بها من أبناء جلدة الشراسة “المتطرفة” ليكونوا في قمة الاحتقان وعلى وشك تأسيس الألوية “المُسلّحة” تلك الخاطفة لثورة الشعب والصارخة بمصالحها وخلافتها الدينية وسلفيّتها المزعوم!
هكذا يمكن ببساطة النظر إلى حال الشمال السوري المزدحم بالفصائل والعقائد والدول اللاعبة، وكيف تعود “الدولة-النظام” إلى مواقعها على نحو انتظار نهاية الحرائق المشتعلة بين تلك الألوية الطامحة “بدولة الخلافة” أو “دولة النصرة” أو “دولة غصن الزيتون” أو “دولة درع الفرات”… إلخ، بالتالي فهي ليست دول بل مشروع عصابات تربّت جيداً في كنف الأب-النظام وتجرّدت من كلّ أخلاق وفهم سياسي وهي تطلب من الناس إمّا أن يكونوا معها أو يقتلوا (…) في محاكم “عسكريّة” تشبه تلك التي زرعها نظامهم الحامي للذقون والنزعات الدينيّة والقاتل لكلّ تباشير أمل في شخصيات سلميّة متنورة يمكن أن تقود الشارع نحو سبل التفكير بالعدالة والقانون بدل الحوار بالدباب والطائرات والبراميل والمفخخات والجهاديين.
على مر العقود الماضية، لم ترَ سورية، برأيي، شكلاً جاداً لدولة القانون والمؤسسات. لم يكن هناك بنية يسود فيها الرأي الأعلى للقضاء وملاحقة المخالفين دون استثناءات وبمعزل عن تدوير القضايا لصالح الفساد المنظم، إذ لا يمكن أن تنهار المنظومة، المتجذرة باللصوص، بغياب طرف أو عشرات الأشخاص، لأن الجميع متورّط سواءً أكان عاملاً في بوفيه لمؤسسة حكومية أو موظفاً أو وزيراً أو ضابطاً أو رئيساً للعصابة الحاكمة. وعندما ينتهي دور هذا أو ذاك ويكون شاهداً على جحيم من السّرقات وانتهاكات لحقوق الشّعب، يتم التخلص منه على مبدأ “الانتحار برصاصتين” وإخفاء الملفات بتحميله التهم والبدء مع فاسد جديد!
بناءً على ذلك لن تستطيع أي كيانات سياسيّة أو عسكريّة خارجة من كنف النظام أو ملوثة ببراثنه لسنوات، أن تقترح مناخاً حقيقياً للشعب المنتفض، إذ من تلقف تلك الصرخات في الشوارع، واستمر حتّى الآن، هم خلاصة العصابات الّتي تريدها السلطة، العصابات الّتي قامت عصابة السلطة بالوقوف على حماقاتهم السياسية لتشكل ما يسمّى “الدولة الأمنيّة” وسحق كل المعارضة.
ولأن التنظير السّياسي لمشروع التغيّير كان غائباً وباحثاً عن العنف، ملعب هذه السلطة، سوف يبدو من الصعب التخلّص حالياً من العصابات المعارضة الّتي جرّت “أبناء تنظيم القاعدة” و”الإسلام السياسي” إلى بلادٍ حلم أهلها بالحريّة والديمقراطية ودولة القانون في مواجهة عصابة الدولة وألويتها المعارضة.
عذراً التعليقات مغلقة