فرائس وفخاخ وقناصّة

هل تتحمّل المعارضة السورية مسؤوليّة الوضع الذي آلت إليه الأمور في مسار الثورة السورية؟

سماح هدايا16 ديسمبر 2018آخر تحديث :
فرائس وفخاخ وقناصّة

إما أن تخنع، أو تصمت فتخيط فمك بحبال، أو تدفع ضريبة غالية..” هذا ما قاله أحد المعارضين السياسيين عن واقع العمل السياسي للمعارضة السوريّة؛ وهو ما يعني أنّ قوى المعارضة السوريّة والثورة في أزمة كبيرة وإشكاليات فكرية وأخلاقيّة داخل شرنقة الصراع الدولي في الحرب السوريّة.

الإجابة عن السؤال المطروح ليست سهلة، فلا يجوز الحكم بالمطلق، من دون أدلة تفسّر هذا  الحكم، والشائع في المشهد السوري إما تعميم أحكامٍ بلا تثبّت من الحقائق، أو تخوين أشخاصٍ وتقديس آخرين، وفق المصلحة والهوى، أما التحليل بمنهج عقلي منطقي؛ فصعب. قد تكون الأحداث الجارية مجالاً خصباً لأحكام الخيانة والمؤامرة والفساد؛ فالثّورة السوريّة على شفا الانهيار، ويتحمّل، واقعياً، أشخاص وأطراف في المعارضة الرسمية وغير الرسميّة جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا المآل لسبب رئيس، وهو عدم استقلال القرار الوطني الذي أفسح في المجال للتّنازل المستمر عن الثوابت الوطنيّة وعن أهداف الثورة، ناهيك عن الفوضى وانكشاف كبير للثورة واختراقها بعملاء ومقاولين وضعفاء. ومع ذلك، لا يبقى سهلاً وبسيطاً تحميل المعارضة هذه المسؤولية بالمطلق، وقد كانت وماتزال تواجه حرباً عسكريّة ضخمة مدمرة ونظاما طاغية يشن حرب إبادة، وقوى عسكريّة عابرة للحدود مربوطة بخطوط تمويل، وواقعا اجتماعيّاً معقّداً وتقاعساً عالمياً منظومته الدوليّة متفاهمة على إبقاء نظام الأسد، خوفاً من مشروع التحرّر الذي سيغيّر، إن نجح، في ترتيب النفوذ في المنطقة.

من الضروري بحث الوقائع بعمق  لتقييم الوضع بشكل أفضل.  أدوّن  بعض الملاحظات  في سياق محاولة الفهم:

  • المعارضة سواء أكانت وطنيّة أو مأجورة أو موالية، لا تستطيع تجاوز التّرتيبات الدوليّة ومشاريعها العريضة؛ فهناك خارطة سياسية دوليّة وإقليميّة تتحكّم ببوصلة الوضع السّياسي والعسكري والمدني في سوريا وماحولها، وهناك دول وقوى تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في مجريات الحرب وفي مسار الثورة والمعارضة وتخلق الأوضاع والظروف والشخصيات التي توافقها، وهي بذلك نسّاج  الفوضى والصراع بمنوال مصلحتها، سواء بدعم النظام وقواه، أو بدعم أطراف محسوبة على المعارضة، أو بخلق تشكيلات جديدة عميلة لها. وعملها يخلط السياسي بالعسكري بالاجتماعي والثقافي، ولذلك تمكّنت أن تنمّي استقطاباً واسع الخصومة، وهو ما رهن المعارضة بتعقيدات هذا النسيج، وجعل عملها مقيّدا بالاستقطاب والصراع وفوضى الخلاف.

 

  • قوى المعارضة والثورة لا تتحمّل وحدها تعثّر الاتفاق والتوحّد بين قواها المختلفة، ولا اضطراب العلاقة بينها وأطياف السوريين المتنازعين ضمن التّحاصص والأدلجة، بل أسهم، في ذلك نشاط  إعلامي ضخم لوسائل إعلاميّة مرئية ومسموعة ومكتوبة ذات حضور داخلي أو خارجي على صلة بأجندات دولية أو إقليمية، عملت على احتلال الوعي السوري بالتشكيك والتقسيم وتقوية الأدلجة بصالحها وفاسدها، بما وسّع الاستقطاب وعمّقه، وذلك بسياق ما تتناوله من أخبار ومعلومات وافتراضات غير محايدة ومزيفة أحياناً، وبما تتداوله من تفسيرات غير موضوعيّة تثير الفتن وتضخّم النزاع، فتحطّ من شأن أسماء وجهات معارضة وتهزّ مصداقيتها وتضعف الثقة بأفكارها ومواقفها، سواء بحق أو من دون حق، وتعلي من شأن جهات وأسماء تخدّم مقاصدها، حتى لو كانت مشبوهة أو هزيلة، وهو ما زاد في تفريق قوى المعارضة وتشتيت عملها، وضاعف من صعوبات عملها ومن توحد قراراتها.

 

  • تكاثر المنابر والمنصّات السياسيّة والفكريّة وتضخّم الفصائل العسكريّة للمعارضة بفعل الدعم الإقيلمي والدّولي، كان محركاً قوياً للفوضى الشعبيّة، خصوصاً، مع تعاظم سلطة بعض القوى على حساب أخرى، فنشأ مزيد من العداوة والشقاق وفقد الجميع ثقته بالجميع، مما سهّل مسار التسويات الجانبيّة والمنعزلة، التي جاءت كمصيدة لقنص قوى المعارضة والثورة، فانقسمت حواضن الثورة والمعارضة، ولم يعد الاصطفاف مقتصراً على النظام ومناهضيه، بل بات المجتمع حراكا متشظيا متنازعا، يحارب بعضه باسم الشرعية أو ضد الإرهاب، أو لمصلحة إنشاء دويلة، أو لمناطق عازلة خالية من سلاح المقاومة، أو دفاعا عن أمن الجوار.

 

  • واجهت المعارضة عرقلة دولية مستمرة لحل سياسي واقعي عادل يسقط  نظام الطاغية وينشيء مسار دولة ديمقراطية، فحوارات الحل السياسي الطويلة عبر سنوات الثورة، لم تثمر إلا تمييعاً للحل السياسي المنشود؛ فتقزّمت الأهداف في لجنة دستورية وانتخابات شكليّة، وشعارات محاربة الإرهاب وتصنيف الإرهابيين، ثم تطوّقت بمناطق خفض تصعيد، ثم مناطق عازلة، وكلها حلول جزئية آنيّة لا تصبّ في مصلحة الشعب السوري استراتيجيا، بل في مصالح الدول المعنيّة… كما توانت منظومة الحقوق الدوليّة عن دعم قوى الثورة والمعارضة بما ينصف حقوق الشعب السوري،  ودعمت بدل ذلك نظام الأسد ومنظومته بالمليارات، هو ما تم كشفه مؤخّراً، حتى بدا أنّ جميع المتدخلين في الشأن السوري لم يعملوا على إزاحة نظام الأسد الذي دمر سوريا وهدّد أمن دول الجوار السوري، وبلا ريب لا يستثنى من هذا الأمر، أصدقاء سوريا الذين، يسجّل لهم أنهم ساعدوا السوريين إنسانيا وإغاثيا، لكنّهم تورّطوا في الحرب بدعم سخي لبعض  الفصائل العسكريّة المؤدلجة والأجنبيّة بما يتماشى مع مصالحهم وأمنهم، على الرغم من ارتكاب هذه الفصائل أخطاء وانتهاكات بحق السوريين، كما تخلوا عن وعودهم بالمساعدة في إسقاط  النظام إلى التحالف مع روسيا وإيران، بضغط المخاوف الأمنيّة والمصالح الاقتصادية، بثمن إخضاع الحواضن الثوريّة السوريّة وتفكيك الفصائل المقاتلة للنظام.

 

  • الخيار الذي اتخذته قوى في المعارضة الوطنيّة والثورة بعلاقتها السياسية والعسكريّة والأمنيّة بروسيا التي شنت حربا واسعة على الشعب السوري غير صحيح. فقد وضعت نفسها في صف لا ينسجم مع مطالب الثورة، لا في مسار الحوار، ولا في الموقف الملتبس من نظام بشار. فما تتحاور فيه مع روسيا وحلفائها، من لجنة دستورية وإصلاحات شكلية وانتخابات ودستور جديد، ومصالحات وهدنات، بلا معنى في ظل وجود طاغية يجثم على قلب الشعب بجهازه الأمني وفرقه العسكرية المتورطة في حرب أهلية مروعة مدعومة من قوى روسيا وإيران. صحيح أنّ الاحتلال الروسي واقع لا يمكن تجاوزه؛ لكن ليس بمزيد تسوية مخلّة بالحقوق والكرامة الوطنيّة؛ خصوصا أنّ روسيا عدو وما انفكّت تعرقل الاتفاق على حل سياسي حقيقي، وتستمر في تمزيق الحواضن التي تحارب ايران والنظام وتصفية الثورة عسكريا وسياسيا، وهي تسنتطيع أن تنسحب متى أحبت من الاتفاقات والتفاهمات التي أجرتها.

نعم، هناك مؤامرة مضادّة للثورة وهناك شخصيات من المعارضة والثورة متورّطة في ذلك، لكنْ، لا يمكن إجمال قوى المعارضة والثورة،كلها، بهذه الأحكام من فساد وخيانة، من دون أدلّة، وفيها من قدم التّضحيات الكبيرة، وفيها من عمل جاهداً لمشروع التّحرّر، وفيها شجعان قاوموا ببطولة، وفيها سياسيون ما زالوا مصرّين، رغم ضيق السّبل على الثوابت الوطنية، وفيها من بقي يناضل في الأرض بعيداً عن ضوضاء الإعلام، وفيها من يعمل بفكره وقلمه وفنّه لدعم مبادئها. لا شك أنّ المعارضة مسؤولة عن جزء من مآلات الواقع بعدم الاتفاق على مشروع ثقافي وسياسي في إطار هوية وطنية تاريخية، ومسؤولة عن سلسلة واسعة من تشظّي التشكيلات الدينيّة والمنصّات والفصائل، والعمل لمشاريع أيديولوجية ولجهات مموّلة، أو لمشروع ديني سياسي عابر للدول أساسه الهيمنة السياسية لا القيم الأخلاقيّة السامية، لكنّ  الحرب في سوريا ضخمة مرتبطة بمشاكل دوليّة ومحليّة عميقة، كما لا يقتصر الخلل على المعارضة أو المؤامرة الدوليّة، بل يمتد إلى عمق الشعب السوري الذي أفرز عقليّة التشتت والمعارضات التي تحمل مشاكله، والذي استمرت فئات منه راضخة لنظام الطغيان أو تابعة لجهات خارجيّة، والذي يتحمّل مسؤولية الوصول إلى هذه المرحلة التاريخية في تفتيت سوريا، باستسلامه لما زرع في عقله من ثقافة استبدادية جاهلة مشحونة بإنكار الآخر، وبعدم إدراكه، فعلياً، طبيعة المرحلة التاريخيّة الحاليّة وما فيها من امتدادات الماضي الجغرافي والثقافي الواسع وحجمها وتعقيد أحداثها، وبعدم اعتماده رؤية معرفيّة واضحة وجامعة، فخسر مكمن قوته وقدرته وثقته.

مشروع الثورة محاصر بشكل خانق، والمخارج ضيقة ومكلفة جدا، ولن ينفع الاستسلام؛ لأن الحرب مستمرة وتتوسع  وفقا للصراعات والتفاهمات الدوليّة؛ لذلك لا بدّ أن يستمرّ حراك الشعب السوري الذي كسر أسطورة الخوف من الطاغية. الخيار الوحيد الآن، إن لم يتوفر سند دولي لحل عسكري، هو أن يناضل الشعب لقراره الذاتي الوطني، بالتوحّد ومقاومة التقسيم والاحتلال. تصورات أن سوريا انتهت وانتصر المعتدون والمستبدون هو إقرار بالفشل والهزيمة.. حتماً انتهت الجغرافية التاريخية القديمة للسوريين، وحتماً هناك من يعمل على رسم دويلات على  الأرض السورية؛ لكنّ الشعب هو صاحب القرار إن أراد وآمن بنفسه واسترد وعيه الذاتي وأصر على إسقاط منظومة القهر والاستبداد، وعلى رأسها نظام الأسد. إنْ تعاون السوريون، مع بعضهم عوضاً عن الاقتتال الفوضوي والعصبيّة فسوف تتخطّى سوريا هاوية الخطر.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل