يُعدّ موضوع الندوة التي يعقدها المركز العربي “من السلاح إلى السلام: التحولات من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي”، من المواضيع التي لا تحتاج إلى مقدمة لتبيين أهميتها. فهو موضوع مصيري في بعض الدول يشغل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمؤثرين في توجيه الرأي العام وصنع السياسات في السياسة والإعلام، ومن الطبيعي أن يشغل الباحثين. وبحكم تركيب هذا الموضوع، فإنه يتطلب مقاربة منهجية تكاملية ومركبة الأبعاد في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والتاريخ الراهن.
ولهذا الموضوع رصيده من تجربة تاريخية تحققت، ويمكن قياسها وحصر حالاتها في العديد من دول العالم من جنوب أفريقيا والقارة الأميركية إلى التجارب المتعددة في العديد من دول أميركا اللاتينية. ولم تكن البلدان العربية خارج نطاق هذه الظاهرة، إذ شهدت بدورها نماذج وتجارب ستتطرق إليها بعض أوراق هذه الندوة. فهو موضوع عربي مُلحّ، ولا سيما في شروط المرحلة التاريخية الراهنة. وستحظى مواصلة بحث هذا الموضوع بمزيد من اهتمام برامج المركز ومشاريعه البحثية؛ فقد وضع المركز في صلب عمله دراسات التحول الديمقراطي، وهو يحاول أن يشتق الحلول من التجربة التاريخية الملموسة وممكناتها التاريخية ومحاولة بناء إطار نظري تفسيري وترشيدي لها، غير مشتق من دروس جاهزة.
لهذا لن أتوسع في تبيين أهمية الموضوع في هذه الكلمة الافتتاحية، فهذا ما ستبحثه أوراق الندوة، بل سأحاول تقديم بعض الملاحظات المتعلقة بمنهجية الرؤية والمعالجة البحثية.
الملاحظة الأولى: إن أسوأ ما جرى لهذا الموضوع بوصفه موضوعًا للدراسة والبحث هو أنّه يُقارَب منذ بداية قرننا الحالي من زاوية ما نمّطته تسمية “الحرب على الإرهاب” وما أفرزته من أفكار وسياسات عملية؛ ما عرقل دراستَه بمنهجٍ علمي، وأخضعه لأجندات سياسية مباشرة من دول كبرى وأنظمة إقليمية ومحلية دخلت في لعبة تبادل المصالح في شراكات واتفاقات، أو معاهدات حول ما يسمّى “محاربة الإرهاب”. وقد استغلت الأنظمة السلطوية، كما هي حال العديد من الأنظمة العربية، انشغال الدول الكبرى بموضوع الإرهاب كأنه تهديد وجودي لكي تبرّر استبدادَها وسيطرتَها، وتعيد إنتاج تغولها على الحريات العامة، وتضع كل من يعارضها، بل حتى من يخالفها في الرأي في سلة الإرهاب، أو على الأقل في سلة داعمي الإرهاب وخدَمته.
والمشكلة أن الأنظمة السياسية تعرّف الإرهاب بهوية الفاعل وليس بهوية الضحية؛ فليس المهم، بالنسبة إلى الدولة – في تعريفه الذي يميّزه تحليليًا من أشكال العنف الأخرى حقيقة – أنّه عنف يستهدف المدنيين الأبرياء لأغراض سياسية، بل أصبح المهم هو أنّ مرتكب فعل العنف كائنٌ غير رسمي (غير حكومي) بغضّ النظر عن هوية الضحية؛ سواء أكانت من المدنيين أم من الجنود ورجال الأمن.
ويترتب على هذه المقاربة ميلٌ إلى إدانة جميع التنظيمات المسلحة التي تعمل خارج القانون – حتى لو كان قانون الاحتلال، أي اللاقانون، أو في ظلّ دولٍ دكتاتورية مستبدّة لا تتيح أي نوع من العمل السياسي أصلًا – كما يترتب عليها تبرئةُ أيِّ عنف سياسي رسمي تقوم به الدولة، حتى لو كان ارتكابَ أعمال إبادة بالمعنى التام للكلمة، وإخضاعُ أمر محاسبته للتوازنات الدولية القائمة، ووزن الدولة المعنية الجيواستراتيجي والاقتصادي، وإن كان سيسمى إرهابًا لو اعتمدنا تعريفَ الإرهاب بموجب هوية الضحية.
بهذا المعنى أصبح مصطلح “العمل السياسي المُسلّح” يشمل حصرًا التنظيمات التي تتبناه، ويستثني الدولة. فهي من هذا المنظور ليست “تنظيمًا مسلحًا”، مع أنها الكيان المسلح بـ “الـ” التعريف الذي حصرت به السوسيولوجيا الغربية احتكار شرعية العنف. وجميع التنظيمات المسلحة تعتبَر، بموجب تعريف الإرهاب المذكور آنفًا، إرهابية. ولا ينطبق التعريف بموجب هذا المنطق على الدول التي تستخدم السلاح ومتمماته لحل قضايا سياسية، حتى لو تحولت قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية إلى ما يشبه الميليشيا المسلحة التي لا يحكمها قانون في صراع مع شعبها سوى الحفاظ على النظام القائم بغضّ النظر عن الوسائل. وقد خبرنا في العراق والسودان (في الماضي)، وغيرها، دولًا تستخدم ميليشيات، ومنها ما دمج في الجيوش لاحقًا؛ كما شهدنا جيوشًا تتحول إلى ميليشيات، مثلما حصل مؤخرًا للنظام السوري ونظام معمر القذافي، حين أصبحا في سلوكهما أشبه بأكبر الميليشيات المسلحة في البلاد، مع الفرق أن الفاعل السياسي يحظى باعتراف دولي بحسب مفهوم السيادة “البوتيني” الذي بموجبه تتجسد السيادة، بل تنحصر، في النظام السياسي لا في الدولة. وحتى لو قام نظام باستهداف صحافي مدنيٍ بالقتل لأغراض سياسية بعد استدراجه إلى قنصليته، فهذا لا يعتبر عملية إرهابية، ولم أسمع أن أحدًا من السياسيين استخدم مصطلح الإرهاب بشكل مفرد في وصف هذا الفعل، أو اعتباره من مظاهر إرهاب الدولة. وهذه فضيحة في حد ذاتها.
إنّ العنف المسلّح المقصود، عند استخدام العبارة، لا يشملُ عنف الدولة. كلنا نعلمُ ذلك. ونحن نتناول الموضوع بعد التسليم بأنّ المقصود بالانتقال من العمل المسلح إلى العمل السياسي السلمي هي المنظمات المسلحة وليس الدول (وهي كيانات مسلحة بحكمِ تعريفها)، حتى لو كانت منخرطة في صراع عنيف مع قطاعات واسعة من شعبها.
كان لا بدّ من هذه الملاحظة قبل الخوض في الموضوع الذي سوف يتبين خلال نقاشاتكم أنّه من غير الممكن فهمه من دون مسألة الدولة وطبيعة النظام السياسي الاجتماعي الذي يحكمها وخياراته. ولا يجوز إهمال بنية الدولة وطبيعة نظامها الحاكم عند التركيز على تبدل خيارات التنظيمات المسلحة وتغير أيديولوجيتها، أو استنتاجات ومراجعات قادتها في السجون، أو توقف الدعم الخارجي لها كما هو الشأن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وغيرها من العوامل مما ذُكر في الورقة الخلفية.
الملاحظة الثانية: إن مقاربة الموضوع، تحت العنوان العام الانتقال من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي، يجب ألّا تطمس الفوارق بين أنواع العمل المسلح وأنواع العمل السياسي السلمي. والعلوم السياسية، في سعيها للتخلص مما تسميه أحكام القيمة، غالبًا ما تنزلقُ إلى عدم التمييز بين سلاحٍ وآخر. فثمة سلاح ما كان يجب أن يُرفع أصلًا لأنّه لم يكن تحرريًا، ولم يرفع من أجل قضية عادلة بالمفهوم السائد في عصرنا للعدالة، والذي يجمع (بتفاوت في التركيب بحسب الأيديولوجيات وغيرها) بين عنصرَي الحرية والمساواة بين البشر؛ وأقصد المساواة في قيمة الإنسان والمساواة أمام القانون، وليس المساواة التي تعني التماثل. وأقصد بشكل خاص حركات مسلحة أعلنت أن هدفها إملاء نمط حياة بعينه بالقوة على الناس أو فرض أيديولوجية معيّنة، وهندسة المجتمع بموجبها؛ سواء أكانت هذه الأيديولوجية علمانية أم دينية. ولكن ثمة سلاح رُفع من أجل تحقيق الاستقلال الوطني عن الاستعمار، أو لأنّ الاستبداد سدّ جميع طرق العمل السياسي السلمي. وهذا لا ينفي احتمال أن يتبنى المسلحون في الحالة الأخيرة أيديولوجيات شمولية ويرتكبون أعمالًا ربما تُفسد عليهم قضيتهم العادلة. فيجب ألّا نخلط بين أصحاب القضية العادلة والأخيار The good guys، وفي المقابل لا يجوز أيضًا أن ننطلق من أن ممثلي الطرف المضطهِد، سواء أكان دولة استعمارية أم نظامًا استبداديًا، هم الأشرار Bad guys.
ليس الصراع المسلح حربًا بين أخيار وأشرار في فيلم هوليوودي. ونتيجتَا هذا الخلط هما النسبية الأخلاقية وازدواجية المعايير، بما في ذلك التسامح مع الجرائم التي يرتكبها طرف والتشدد بشأن جرائم الطرف الآخر. ولكن توجد في الدنيا قضايا عادلة بالتأكيد. وهذه يمثلها أناس قد ينزلقون، مثلهم مثل غيرهم، إلى تبني أفكار لا تعبر عن عدالة القضية، وقد يرتكبون أيضًا أعمالًا شائنة تسيء إلى القضية العادلة. إنّ القناعة أن القضية العادلة يمثلها أشخاص عادلون مثالٌ يفترض أن يصبو الناس إليه، ولكنه لا يتحقق في الواقع دائمًا.
الملاحظة الثالثة: بطبيعة الحال، إن البحث في موضوع الانتقال إلى السلم، مثل حال فروع العلوم السياسية المقارنة التي تبحث في الانتقال جميعها، هو بحث تيليولوجي، أي إن غايته الوصول إلى السلم. ومهما أنكر العاملون فيه والمهتمون به انحيازاتهم، فإنهم منحازون غالبًا إلى ما ينظّرون للانتقال إليه بأدوات العلوم الاجتماعية. فالباحثون في الانتقال الديمقراطي، مثلًا، مع أنهم ينشرون أبحاثهم في دوريات علمية، فإنّ هذه الأبحاث منحازة أصلًا إلى الديمقراطية، وهي مصوغة من داخل الخطاب الديمقراطي. وكذلك، فإن من يبحث في الانتقال إلى العمل السياسي السلمي ينظِّر فعليًا لهذا الانتقال، ويبحث عن الوسائل لتعزيزه بأدوات العلوم السياسية المقارنة والدراسات الأمنية. وهذا هدف نبيل غالبًا، ولا يقلل من الموضوعية العلمية، فهي لا تعني الحياد بالضرورة، وإنّ العلوم الاجتماعية لا تتطلب “الحياد” بل الموضوعية قدر الإمكان. هكذا يدرس الباحثون أسباب الانتقال: هزيمةً عسكرية، أو إنهاكَ البيئة الاجتماعية الحاضنة باستنزافها في الحرب، أو انسدادًا قاد إلى الاستعداد لقبول الواقع السياسي بتعديلات شكلية أو جوهرية، أو حتى بالاكتفاء بالعفو القضائي عما ارتكبه التنظيم، أو نصرًا عسكريًا أوصل التنظيم المسلح إلى الحكم، أو إصلاحًا سياسيًا معيّنًا في النظام السياسي، قابلته مرونة سياسية من جهة، وفكرية لدى التنظيم المسلح من جهة أخرى؛ ما مكّن من استيعاب الحركات المسلحة ضمن النظام الذي أصبح أكثر تعددية.
وغالبًا ما يتطرق الباحثون إلى الخلفيات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي جعلت مثل هذه المسارات ممكنة في ظل توازن قوى عسكري معين. ولكن بحث نتائج كل مسار على طبيعة حالة السلم التي تنشأ ومدى استقرارها لا يقل عن ذلك أهمية. فمثلًا يُطرح السؤال بحق: إذا لم يقم السلم على أساس العدالة، ولو النسبية، وإيجاد حلول للشروخ الاجتماعية الكبرى والتعبيرات المؤسسية عن هذه الحروب، وشفاء جروح الذاكرة الملتهبة، هل يمكن أن يدوم هذا السلم؟ ألا تنشأ احتمالات لعنف أسوأ؟
نعرف ماذا يعني انتصار حركة تحرر وطني والتحول إلى دولة وإقامة جيش. فقد كثرت الدراسات للنماذج المختلفة. وثمة دراسات حول تحول فصائل مسلحة وميلشيات منخرطة في حروب أهلية قومية أو طائفية إلى السلم بعد أن توصلت إلى تسويات فيما بينها بالتوافق واقتسام السلطة في دولة واحدة، أو بالانفصال إلى حكم كيانات سياسية مختلفة. ولكن لِنحاول أن نفهم: ما يعنيه التحول من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي في ظل نظام سلطوي. قد يعني أولًا استنتاج النتائج من هزيمة الكفاح المسلح، أو عدم واقعية انتصاره، على الرغم من عدالته. وقد يعني انفتاح أفق للعمل السياسي في ظل الاستبداد بالإصلاح؛ وغالبًا ما تكون هذه مقدمة لعملية دمقرطة يصبح فيها التحدي الكبير للتنظيم السياسي متمثلًا بقدرته على التكيف مع المؤسسات الديمقراطية وإجراءاتها والتنظيم الحزبي. ولكن توجد بين الحالتين نماذج لتحويل النظام السلطوي إلى نظام سلطوي تنافسي، أي تنافسي شكليًا، أو باحتواء رموز من العمل المسلح ضمن النظام القائم. وثمة أمثلة على النموذج الأخير؛ وذلك في أنظمة ملكية عربية أظهرت قدرة ومرونة أكبر من الجمهوريات على احتواء الخصوم، وحتى توزيرهم.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بعكس الموضوع، أي التحول من العمل السلمي إلى العمل المسلح، ولو تأملنا في العبارات جيدًا لوجدنا أنه في العمق الموضوع ذاته:
نستثني من نقاش التنظيمات المسلحة موضوع الكفاح المسلح الفلسطيني وجبهة التحرير الجزائرية وغيرهما من حركات التحرر (وأنا أميلُ عمومًا إلى استثناء حركات التحرّر الوطني مما يُسمى العمل السياسي المسلح؛ فالمقصود بالأخير العمل السياسي داخل الدول ذات السيادة، أما حركات التحرر الوطني فشرعية حملها للسلاح يشبه شرعية الدول لناحية حقها السيادي في مقاومة الاحتلال، وهذا ليس امتيازًا، بل مسؤولية، والمسؤولية تفرض واجبات قانونية وسياسية متعلقة بضبط الكفاح المسلح).
نعود إلى التجربة العربية بعد أن قمنا بهذا الاستثناء. وهي تبين في الأعوام الأخيرة أنّ الاستبداد الذي لا يترك أي مجالٍ للإصلاح السياسي والتغيير السلمي، إذا اجتمع مع سياسة تهميش اجتماعي وممارسات إذلال جسدي ونفسي لفئات واسعة من المواطنين يخلقُ بيئة مناسبة للعمل المسلح. وهذا لا يعني أن هذه البيئة تنتج مباشرة عملًا سياسيًا مسلحًا. فهذا يحتاج إلى فاعلين لا يمكن استثناء إراداتهم وخلفياتهم الفكرية والاجتماعية وثقافتهم من البحث. ولكن ثمة فرق بين العمل في بيئة مناسبة وأخرى غير مناسبة. ويبدو أن الأوضاع العربية تفرض علينا سؤالًا معكوسًا أيضًا؛ هو ظروف الانتقال من العمل السلمي إلى العمل المسلح.
ولا شك لدي في أنّ الشعوب عمومًا، في الشرق والغرب، تميل إلى الاهتمام بتدبير شؤون حياتها، وهذا يعني بداهةً الميل إلى الاستقرار والخوف من الفوضى؛ ولذلك فهي تفضل الإصلاح والانتقال والتغيير السياسي بالإصلاح، كما تُفضل التغيير السلمي إذا كان ممكنًا. وقد أعجبت الشعوب في الشرق والغرب بتجربة الثورات العربية السلمية في عام 2011. لكنّ رفض الأنظمة لأي إصلاح أو رد قوى النظام القديم العنيف على الحراك السلمي، ورفضها قبول التغيير، ولّد خيبات عند جزءٍ من شباب القوى السياسية المعارضة الذي علّق الآمال على الثورات السلمية والحراك المدني؛ ما أدى إلى انتقال بعض هذا البعض إلى العمل المسلّح. فليس جميع من أُحبطوا وخابت آمالهم وتحولت أحلامهم إلى كوابيس يلجؤون إلى السلاح.
إن حمل السلاح في زمن الثورة المضادة يزيد من ضراوة الاستبداد وتوق الناس إلى الاستقرار إلى درجة القبول بالنظام القائم. ويساعدهم النظام وإعلامُه ومثقفوه؛ ليس على ربط العمل المسلح بالثورة والتغيير فقط، بل أيضًا على لوم الضحية، أي تحميل الضحايا مسؤولية جرائم النظام لأنهم لم يقبلوا بالأمر الواقع والنظام القائم الذي أصبح مرادفًا للاستقرار. فالملام هو ليس رد فعل النظام العنيف والوحشي على طالبي التغيير، بل طلب التغير ذاته. وهو الذي يدان. وبلغة أخرى؛ لو قبل الضحايا بالوضع القائم أصلًا لما اضطر الشعب إلى الاستسلام له من جديد بعد كل هذه التضحيات التي يسعى النظام لإظهار عبثيتها. رأينا ذلك في مصر التي حول فيها النظام ثورة وصراعًا من أجل الديمقراطية إلى قضية حفظ الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب؛ ما نقل النضال من جهة أخرى من نضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلى نضال دفاع عن حقوق الإنسان.
وفي دول الثورات التي حافظ فيها النظام على ولاء الجيش الذي أطاع الأوامر وأطلق النار من دون هوادة على المتظاهرين، توجهت قوى اجتماعية وسياسية إلى حمل السلاح. وتحوّل العمل المسلّح في حالة الثورات المدنية العفوية، التي قُمعت بقوة السلاح، إلى حالة من التشظي اللامتناهي، إذ لم يكن ثم كفاح مسلح منظّم من قبل، ولا خبِر المسلحون العفويون كفاحًا مسلحًا يقوده تنظيم ضد النظام قبل الثورة، فلم تكن ثمة قيادة مركزية قائمة ينضوي تحتها حملة السلاح الجدد الذين قذفت بهم الثورة إليها.
هكذا نشأت عفويًا قوى مسلّحة مُتشظّية بعضها عبارة عن جماعات مسلحة محلية، وبعضها تمثّل تيارات سلفية جهادية متصارعة لا علاقة لشعاراتها بأهداف الثورة، وبعضها تابع لدولٍ تدعم الثورة والنشاطات المسلحة لغاياتها، وأخرى هي عبارة عن جماعات تتبع ما أصبحوا أمراء حرب استفادوا من السيطرة على مناطق بمواردها تحت تسمية المناطق المحررة. لا شك في أنّ الحالتين النموذجيتين هنا هما حالتا ليبيا وسورية.
ما يميز هذه الحالات هو انعدام قيادة مركزية للعمل المسلح وانعدام قيادة سياسية تخضع لها القيادة العسكرية. هذا النوع من العمل المسلّح لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة؛ لأنّه لا يقوم على إستراتيجية موحدة ولا يطرح برنامجًا سياسيًّا أصلًا سوى مطلب عادل من دون شك؛ هو إسقاط النظام القادم. وهو عاجز عن الانتصار عسكريًّا بسبب انعدام إستراتيجية قتالية موحدة وانعدام حتى أهداف عسكرية مرحلية موحدة من ناحية، كما أنه غير قادر على التفاوض للوصول إلى حل سياسي من ناحية أخرى، بل قد يُستخدم بعض الفصائل في المفاوضات لتحييده ريثما يتم القضاء على غيره. ويصبح أي دعمٍ دولي للتنظيمات تعميقًا للشرذمة والتشظي.
وتحتار القوى الداعمة للثورة والمناهضة للاستبداد فيما عليها فعله، خاصّة في لعبة حصيلتها صفر؛ بمعنى أنّ خسارة هذه القوى تؤدي إلى انتصارٍ كاملٍ للاستبداد ليعود أسوأ مما كان، لأنّه يُضيف إلى طغيانه السابق نزعةً انتقامية واستعدادًا أكبر لارتكاب الجرائم. أما تصور انتصار هذه القوى المسلحة، على فرض إمكانية حصوله، فلا يمكّن من رسم خريطة سياسية ممكنة لنتائجه. والتجربة الليبية بعد الثورة التي أسقطت النظام رغم التشرذم بتدخل خارجي لا تقدم نموذجًا مشجعًا.
ففي حالة انهيار النظام (كما حصل في ليبيا بتدخلٍ أجنبي شكّل وزنًا أكبر في المعادلة العسكرية؛ من ولاء جيوش القذافي الخاصة، واستعدادها لارتكاب أفظع الجرائم من جهة، وتعدد القوى المسلحة من جهة أخرى)، تصبح الميليشيات المسلّحة عائقًا حقيقيًّا أمام بناء مؤسسات الدولة. وإن وجود دولة موحدة بمؤسسات فاعلة هو الشرط الأوّل، ويكاد يكون الوحيد، للتحول الديمقراطي إلى جانب وعي النخب السياسية واستعدادها لقبول الإجراءات الديمقراطية باعتبارها حلًا وسطًا مقبولًا لتنظيم العلاقات بينها. ومن دون ذلك، لا تعني الانتخابات انتقالًا إلى الديمقراطية، بل تشرذمًا إضافيًا.
وإذا لم تتمكن القوى الأجنبية التي أسهمت في إسقاط النظام من العمل على بناء جيش جديد يدعم مؤسسات الدولة ويجمع الفصائل المسلحة بالقوة أو بالإقناع، فإن هذه الفصائل لا تنقرض، بل تكبر وتتضخم وتتحول إلى ميليشيات، وينضم إليها أفراد كثر لم يشاركوا في العمل المسلح خلال الثورة، ولكنهم ينضمون لأنهم في حاجة إلى حماية في غياب الدولة، أو كمصدر رزق؛ لأن الميليشيات تتحول أيضًا إلى مشغّل. فلا يمكن نزع سلاح الفصائل الثورية المسلحة في ظل غياب مؤسسات الدولة، ولا يمكن بناء مؤسسات الدولة بوجود طاغٍ للفصائل المسلحة. هذه حلقة مفرغة لا بد من كسرها لإيجاد حل.
لقد أثبتت التجربة أنّ الحركة المسلّحة لا يمكن أن تحقق إنجازات حقيقية في مواجهة نظام حاكم، مثل احتلالٍ أجنبي أو دولة استبدادية، من دون قيادةٍ موحّدة وإستراتيجية تلتزم بها، كما تبين أنّ تعدّد الفصائل المسلحة الناجم عن انطلاقتها العفوية وبيئاتها الاجتماعية المختلفة أو صراعها الأيديولوجي أو عن هذه العوامل مجتمعة، لا يلبث أن يُحوّل الصراعات بينها على النفوذ إلى التناقض الرئيس، وتتوجه طاقتها الرئيسة إلى الصراعات فيما بينها بدل الصراع الأساسي الذي تدّعي أنّها قامت من أجله. وغالبًا ما لا تنجح هذه الحركات في التوحد من تلقاء نفسها بسبب غياب الثقة المتبادلة وحضور الخوف المتبادل، وارتفاع منسوب النرجسية ووهم القوة الذي يخلقه حمل السلاح من دون تدريب عسكري أو انضباط حزبي. ولذلك، فإنّه إمّا أن يوحدها تنظيم واحد بالقوة ويسيطر عليها، أو يحصل ذلك بتدخلٍ خارجي، أو تنخرط في صراع مديد قد يؤدي إلى تغلب النظام عليها وانقراضها.
هذا في مرحلة الكفاح المسلّح. أمّا في مرحلة بناء الدولة، فلا يمكن إطلاقًا المضي في بناء مؤسسات الدولة من دون دمج الفصائل المسلحة في جيشٍ واحد أو حلها؛ سواء أكان ذلك بالإقناع أم بالقوة. ويُفضل أن يكون ذلك بالإقناع أو الطرق السلمية. ولكن هذا يتطلّب حلولًا وسطى وتسويات. ويتحقق هذا غالبًا بشكلٍ أفضل في حالة الدولة الديمقراطية، أمّا في حالة الدول الاستبدادية فلا يلبثُ أن يتحول الصراع المكبوت بينها إلى تصفيات داخل المؤسّسة الحاكمة كما رأينا في عديدٍ من دول العالم الثالث.
ولا يمكن أن يجري الانتقال إلى النظام الديمقراطي تحديدًا من دون التخلي عن العمل المسلح، الذي ينفي بحكم تعريفه مؤسسات الدولة واحتكارها للعنف الشرعي، كما يتناقض مع التبادل السلمي للسلطة. إن انعدام المساواة بين من يحمل السلاح (حتى لو لم يستخدمه) ومن لا يحمله لا يسمح بقيام نظام تعددي ديمقراطي. وأكثر ما يمكن التوصل إليه بين حاملي السلاح هو هُدن أو توافقات مؤقتة، أما الديمقراطية فتتطلب التخلي عن السلاح بغضّ النظر عن حجم تضحيات حامليه الذين يفترض أنهم حملوا السلاح ضد الدكتاتورية، أما إصرارهم على السلاح في العمل السياسي فهو في حد ذاته نوعٌ من الاستبداد، وقد يتحول إلى فوضى يخشاها الجمهور أكثر مما يخشى الدكتاتورية.
ولهذا يُطرَح النظام السلطوي الاستبدادي بوصفه الجواب عن الفوضى، ولكنه في عصرنا جواب مؤقت؛ لأن المرحلة التاريخية في مجمل الوطن العربي لا تزال انتقالية غير مستقرة، كل شيء فيها خاضع للتغير والتبدل أو الانهيار والتشكّل من جديد بسرعات مختلفة تتضمن التراجعات والانكفاءات وليس الاستقرار أبدًا، وذلك لأسباب يطول شرحها. وثمة احتمال أن يقنع الاستبداد جيلًا واحدًا فقط ممن خبروا الثورة والثورة المضادة بأنه العلاج للفوضى. وحتى في هذا الجيل يبدو سخيفًا بالنسبة إلى من يتعرضون للإذلال الجسدي والنفسي أنّ معاناتَهم هي موضوعيًا تضحيةٌ لا بد منها من أجل الحفاظ على الاستقرار، حتى لو قدمت على ذلك الحجج في دورية أكاديمية يقرؤها بضع مئات من الأشخاص.
- كلمة افتتاحية ألقاها الدكتور عزمي بشارة في ندوة “من السلاح إلى السلام: التحولات من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي” – الدوحة، 3 – 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018
عذراً التعليقات مغلقة