هل من الممكن أن يحدث تغيير اجتماعي وفكري حقيقي في المجتمع السوري بمعزل عن التغيير السياسي؟ وهل التغيير يجب أن يحدث من قمة الهرم لكي نضمن بناء قاعدة جماهيرية بمفاهيم جديدة؟ أم من الممكن أن يحدث تغيير تدريجي من القاعدة بحيث تعطى الوقت والأدوات الكفيلة بمساعدتها على نبذ كل المفاهيم والمعتقدات والأفعال الخاطئة وتمكينها من ممارسة النقد الذاتي لنفسها وصولاً إلى هرم السلطة؟
هل نظام الأسد مسؤول عن استمرار بعض العادات أم أنه متهم بتكريسها ومنع اندثارها؟
في الأسبوع الماضي تناقلت وسائل الإعلام الفيديو الصادم لشاب سوري في الشمال الخارج عن سيطرة النظام، يقتل أخته بطريقة وحشية مستخدماً سلاحاً نارياً وأكثر من 80 طلقة من أجل “غسل العار”، يرافقه شاب آخر يشجعه على الجريمة ويوثق ما يحدث وينشره على جميع مواقع التواصل الاجتماعي دون أدنى خوف من العقاب على هذا الإعتراف بالجريمة العلنية.
بعيداً عن الشجب والإستنكار الافتراضي الذي حصل على أرض الواقع هل هذه الجريمة مبررة؟ للأسف الشديد هي مبررة اجتماعياً وقانونياً في عموم سوريا، إذا ما استثنينا الرصاصات الثمانين التي اخترقت جسد الضحية وهذا يعود لانتشار السلاح بسبب الحرب ولكن في السلم أيضاً ربما تتحول 80 رصاصة إلى 80 طعنة بالسكين كمثال، ولن يكون الأخ أو الأب أو الزوج جناة في عين القانون أو المجتمع لأنها “جريمة شرف”، وستمر الجريمة بدون عقاب أيضاً وسيبقى الجاني بعين المجتمع (غاسل لعاره).
لماذا لم تعمل الأنظمة الديكتاتورية طوال تلك السنين التي حكمت بها الشعوب على تغيير مثل هذه القوانين البالية؟ لأنها ببساطة وسيلة أخرى لاضطهاد المواطن ولكن بغطاء قانوني.
ماذا عن التعليم؟
لم يحاول نظام الأسد طوال نصف قرن من حكمه تنمية التعليم أو التركيز على بناء الشخصية بل على العكس كرس نموذجاً يخدم سياسته بتعظيم الفرد، معتمداً في ذلك على سياسة ممنهجة بالتجهيل الإنساني والأخلاقي وسلب الأجيال الخيال وحق التفكير عبر حشو الرأس بالمعلومات من جهة واستعبادهم بمؤسسات البعث، بداية من الطلائع في المرحلة الإبتدائية إلى الشبيبة في باقي المراحل تحت مراقبة شديدة من حزب البعث الذراع الطويلة للمخابرات، ما أنتج أجيالاً قضت على الأمية التعليمية واحتفظت بالأمية الإنسانية والأخلاقية وتحمل الكثير من العنف المجتمعي والانغلاق على الآخر، بحيث لم تخرج من دائرة المجتمع ذاته، بل من الطبيعي أن نرى كثيراً من حملة الشهادات يؤيدون جريمة القتل السابقة ولنفس الأسباب “غسل العار”.
كيف أدار النظام المؤسسة الدينية؟
ما يعرف بوزارة الأوقاف ربما كانت أول كذبة تمت تعريتها بعد الثورة، والتي أظهرت بشكل واضح اصطفاف رجال الدين مع السلطة، التي كانت تدعي العلمانية وتحييد الدين عن الشارع ومنع انتشار أي مظاهر دينية في المدارس والجامعات وبيئة العمل، ولكن بالمقابل كان للسلطة اليد العليا بالتدخل في أدق التفاصيل في حياة الناس عبر خطبة يوم الجمعة التي كانت تمنع الأئمة من طرح أي قضية خارج السياق، وكل إمام يشذ عن هذه القاعدة يزج بالسجن تحت وابل من التهم الكيدية، التلاعب بعقول الناس في نقاش يمتد ساعة حول حرمة دخول الحمام بالقدم اليمنى يرفع قدر الإمام في عيون السلطة، ولكن أن تقدم وزارة الأوقاف مثلاً مسودة تفند قانون “جرائم الشرف” من الناحية الشرعية وتحاول تصحيح هذا الخطأ كخطوة أولى على طريق التغيير، من الممكن أن يكون سبباً ليكشر النظام عن أنيابه ويتهم السلطة الدينية بالتدخل في شؤون الدولة “العلمانية”.
ماذا عن البلديات والمجالس المحلية؟
من المعروف أن البلديات والمجالس المحلية بالعالم كله عبارة عن مؤسسات تختصر السلطة المركزية إدارياً بما يتناسب مع ظروف وتقاليد ومكتسبات كل مدينة أو بلدة على حدى، بحيث تتشارك القوى المحلية مع البلديات المنتخبة بالعمل لصالح بلدياتهم حتى يعم النفع على الجميع.
ولكن كل هذه المؤسسات الإدارية في سوريا ليست سوى هياكل وهمية لا تستطيع أن تتخذ قراراً يخص أي مدينة أو بلدة دون الرجوع للقيادات العليا التي تتحكم بكل شاردة وواردة من الإقتصاد إلى التخطيط والتنفيذ ثم إتخاذ القرار الذي لا يمكن بطبيعة الحال الاعتراض عليه، حتى لو كان فيه ضرر بالغ للمدينة كما حدث سابقاً في “مشروع حلم حمص” الذي كان سيدمر تراث المدينة العريقة على حساب مشروع يدعي الحداثة والتطوير رامياً بعرض الحائط مصلحة المواطنين وأرزاقهم وتراثهم وكل ذكرياتهم التي لم تنجو بطبيعة الحال بسبب الحرب الحالية.
نحن أمام مجتمع مكبل ومشلول بشكل تام غير قادر على اتخاذ أي خطوة للأمام من أجل التغيير الاجتماعي والاقتصادي لاحقا ومن ثم السياسي أخيراً، لأنه معزول بشكل كامل عن جميع دوائر السلطة ولا يملك القدرة أو الخبرة على الاقتراب من الإدارة، وهذا كان أحد أسباب فشل الإدارة في أغلب المناطق الخارجة عن سيطرة النظام حالياً، وما زلنا نرى حتى بعد 8 سنوات استمرار الممارسات العقيمة ذاتها والعقلية القمعية وجرائم الشرف المتكررة كجريمة قتل الأخ لأخته في الشمال أو الزوج لطليقته كحادثة (أبو مروان) في ألمانيا ولكن الفرق أن الشاب سيفلت من العقاب في جرابلس وأبو مروان حُكم لمدة 15 عاماً في ألمانيا.
الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون لن يذهب هباء وسيأتي يوم تتحول فيه الحرية المنشودة لواقع تمارسه فئات الشعب بمسؤولية ووعي وتخطيط وتنهض بسوريا الجديدة من تحت ركام القمع وتبعات الحرب بقاعدة صلبة تعتمد على قوة القانون والعدالة الاجتماعية مطلب الثوار السوريين الأول والأخير.
عذراً التعليقات مغلقة