يصر العالم، بمؤسساته الأممية ودوله الفاعلة، على أنه لا حلَّ عسكرياً للقضية السورية، وأن الحل السياسي هو الوحيد الممكن والمقبول للتغلب على المعضلة، وشيئاً فشيئاً فرض اللاعبون الأساسيون رؤيتهم، من خلال إدارة العمليات العسكرية التي كان وقودها الناس والحجارة أعدَّتْ للسوريين، حتى استقر الحال على فرض أمر واقع قسم البلاد عملياً إلى ثلاثة كيانات يحكمها اللاعبون الدوليون والإقليميون باسم ممثلين سوريين لا يملكون من الأمر الكثير.
وكما هو معلوم فإن أي عملية سياسية تقتضي وجود طرفين يجلسان إلى طاولة مفاوضات، تدعمها العسكرة أحياناً، أو يستقوي كل طرف على الآخر بما يملك من أوراق داخلية ودعم خارجي…
وفيما اتضح منذ البداية -ولم يتغير- الطرف الذي يمثل نظام الأسد داخلياً وخارجياً، فإن الطرف الثوري مر بتعقيدات وتغيرات وانتكاسات ما زالت مستمرة، وسط غياب رؤية موحدة وهدف جامع، مع انفضاض بعض الداعمين الخارجيين، وتخلي آخرين عن المسألة برمتها مع تقادم العهد.. ما جعل إمكانية التئام طاولة الحوار -التي يستعجلها المجتمع الدولي- أمراً بعيد المنال في الوقت المرسوم، مع غياب البدائل التي يمكن أن يستفيد منها فريق الثورة أو المعارضة، فالحل العسكري -بعد الانسحاب من محيط دمشق والجنوب والوسط- صار ضرباً من خيال أو شعاراً لمصدّري أشكال الدولة غير الوطنية، دولة الوهم.
ومثّل مؤتمر “الرياض2” عام 2017 والذي انبثقت عنه “هيئة التفاوض” الراهنة، تحولاً قاسياً في مسار العملية التفاوضية، إذ أقصى المؤتمر ومخرجاته القائلين بضرورة وحتمية إسقاط نظام الأسد، وجاء بممثلين انساقوا مع دي مستورا وقبلوا سلاله المزعومة للحل، وجلسوا مع الروس قبل الأوان، ليجدوا أنفسهم وقد حشروا الثورة واختصروها في “تعديل دستوري” مهما علا سقفه فإنه سيعيد إنتاج النظام بوجوه وصور أخرى ليس إلا..
ومن هنا؛ وجد جمهور الثورة بعدما استقرت أقدامه على جزء من الأرض مكين، في إدلب وسوارها، وجد نفسه قادراً على التعبير مجدداً، فكان من الطبيعي أن ينبذ الخارجين على الهدف والقانعين من الغنيمة بالإياب..
إلا أن الأمر يبدو أعقد من رفض “هيئة التفاوض” والتمرد على تفردها بالحل والقرار، فمسيرة العمل السياسي الثوري لا تنبئ بخير ولا تبشر بحمل يسفر عن مولود غير خديج.. فما أن أنتجت الثورة كيانها السياسي الأول “المجلس الوطني” في الشهر العاشر من السنة الأولى للثورة، حتى انقلبت عليه واستبدلته – أو استبدله اللاعبون الخارجيون- بعد عام واحد فقط، لنشهد ولادة “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، الذي ما زال مستمراً بلا فاعلية ولا جدوى، وبين هذا وذاك شهدت الساحة السورية داخلياً وخارجياً ولادة مئات المؤسسات السياسية التي لم تثبت أي حضور أو أدنى فاعلية في توجيه القرار أو حتى التأثير فيه ولو من بعيد..
ويعلم أبناء الثورة وداعموها والمراقبون لها، أن الصراعات البينية صار صوتها أعلى وأوضح من الصراع الأساسي مع النظام، وهذه الصراعات -عندما كانت خفية- نجحت بإجهاض محاولات الخروج بجسم سياسي موحد يفاوض عن الثورة، فما بالك وقد غدت علنية وأشهرت كل أسلحة التخوين والتكفير والتهم التي تُوجب القتل!..
إن الجلوس إلى طاولة مفاوضات يقتضي تحديد أسماء بعينها، ولا يكفي في هذا المقام الكلام العام والشعارات النبيلة، فلا يكفي أن نقول نريد ممثلين مدنيين أو ذوي توجه ديني أو غير ذلك.. فالأقنعة جاهزة واللحى المستعارة متاحة، ومن عادة الأحزاب والساسة تغيير النفوس والوجوه..
ولحل المعضلة، يمكن لجمهور الثورة وحاضنتها في الداخل خصوصاً، اتخاذ خطوة عملية صريحة ومحددة، بإجراء أول انتخاب حقيقي ومصيري، لانتداب من يمثلهم في مفاوضات الحل النهائي، لأنه عليها سيُعقد المصير ويُبنى القادم، وإن كانت الدول التي تتحاصص سوريا الآن تريد أن يكون لها كلمتها، فليكن لنا على الأقل نصف الكلمة ولهم النصف، أما أن يقتصر دورنا على “التخوين” والرفض، فإن العالم لن يسمعنا طويلاً بعد ذلك..
عذراً التعليقات مغلقة