عندما رفع النّظام السّوري الحظر عن موقع “فيسبوك” منذ عشر سنوات تقريباً، كان يعرف تماماً أنّ لائحة التّتبع والتقارير عن المواطنين سوف تكون أكثر سهولة وبساطة من تعقيدات الأمس، الّتي يذكرنا بها الفنان ياسر العظمة حين يتنكر كـ”متسوّل” في أحد لوحات مسلسل مرايا، ضمن خطة أمنيّة كُلّفت له من جهاز مخابرات يحاكي الوضع السّوري منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لمراقبة أحدهم، ثم ترك هذا المتسول وظيفته كمُخبر، وراح يبدع في “الشحادة” الّتي كانت تُدخل له نقوداً أضعاف معاشه كعنصر أمن! وأمّا اليوم ورغم التّسهيلات المُتاحة، لا يبدو أن التّجسّس الأمنيّ هو مجرد متابعة لأخذ العلم بطبيعة آراء النّاس “مع النظام أو ضده” بل ذهب لأبعد من ذلك، للتأثير على وقت شعب عاش انتظار سبع سنوات من “إرهاب النّظام” و”تشتّت الثّورة المسروقة” إذ تحوّلت البلاد إلى مصحّات عقليّة وسياسيّة يُعَامَل فيها البشر، كما تُعَامِل الحكومة النظامية أو المؤقتة “المرضى” بالضرب وحشر النّاس في سجن على هيئة مشفى يُنضج الهلاك مبكّراً.
لا تحتاج المسألة هنا إلى جغرافية واقعيّة، وتنكّر بزي متسوّل أو بائع فول نابت وبَليلَه، بل اصطياد افتراضيّ عبر خدمات التواصل الاجتماعي المتاحة لمعرفة تحرّك النّاس، حالاتهم، صورهم ويومياتهم، أهوائهم واهتماماتهم…إلخ، إنّه حِصنٌ مخابرتيّ معقّد وبسيط الوصول في آن، وكانت هناك تُهم كثيرة نتذكرها بداية الثّورة السّورية لكلّ من يعتقله النّظام “بالتحريض على فيسبوك” من أجل التظاهر، أو وضع “الإعجاب والتعليقات” على منشورات “وهن نفسيّة الأمّة” و “زعزعة الاستقرار” المزعوم. وتطوّرت أساليب الملاحقة المعلوماتيّة في دمشق لتذهب نحو عوالم نفسيّة أكثر، يفحص النّظام من خلالها الاحتقان الجماعي وطبيعة التّوجه، فتثير السّلطة وأهلها وأجهزتها الأمنيّة، ظاهرة ما، صورة أو مقطع فيديو أو تصريحاً، ثم تتم معالجة “الخلل” المبتذل من قبل أهل السّلطة إيّاها الّتي أطلقت في السّماء الطائرات الحربيّة ومروحيات البراميل المتفجرة لقتل المناطق الرّافضة لحكم الطاغية، وتعود الأمور على ما هو عليه بصورة “المخلّص البطل” وهذا أحد أشكال التّعويم السّياسي الذي تتسلّى المخابرات به للاطلاع على مخيّلة السّوري!
قتل بسيط متنوّع، تهجير وتغيير ديموغرافيّ، قصف مستمر، ذُل، تحقير وتفرقة وتخوين، تفتيت طائفيّ مناطقيّ، هكذا… إلى أن تعود ظاهرة جديدة للتداول، والقضايا الكبرى تبقى في تخدير إعلاميّ لا يدافع عنها أحد، ولا ينتبه لها كائن، عالم مدهشٌ في عهره! والمناسبة هنا هي سيلان الهبل الإعلامي الّذي قام به النّظام حين أمر بإغلاق أحد منافذ “باب شرقي” بالإسمنت والحجارة في دمشق القديمة منذ أيام، ثم قام بإزالة هذه الحماقة، وانتشرت صورة قبل وبعد الهبل ذاك، ليقال إنّ “فيسبوك” هو من أزال تلك الفعلة، عِلماً أنّ مئات الكوارث ترتكب بحقّ البشر قبل الحجر ولا تعطي “السّلطة” أذنا لها، مثلاً انتشار صورة لإهانة الجنود الرّوس لعدد من عناصر ميليشيات (الدفاع الوطني) أثناء التّعفيش من أحد المناطق الواقعة تحت الرعاية الروسية. والاحتفاظ المستمر بحقّ الردّ على مئات غارات العدو الإسرائيلي. إضافة إلى التّبجح في نشر المظاهر الطائفية “الشيعيّة” واللطميّات المستفزّة وسط سوق الحميدية وأمام الجامع الأموي بدمشق، بل والقبول بدخول عناصر أجنبيّة “لحماية المقدّسات” ويستغربون من “تنظيم الدولة الإسلاميّة” و “جبهة النصرة” وحجّ استخباراتهم إلى بلادنا لابتكار ذات الأدوات تحت مزاعم الدفاع عن “السنّة” في بلاد الشّام…!
إنّ الطاعون الأمنيّ الّذي يجري في وعي السّوري، لم تتم معالجته بعد، وأستطيع أن أصفه بعبارة “التفكير المؤامراتي” حيث لا يزال يُصدّر قوائم انتخابيّة من كهف حزب البعث الأسديّ، يمكننا مشاهدتها في تقارير إعلام النظام اليوم. وأناشيد الحزب الحاكم كما هي لم تتغير، وكذلك سِكّينةُ الرفيق “الطليعي” على شكل يدٍ مرفوع بالقسم “الهتلريّ” للدفاع عن “مجتمع القائد” ضدّ سورية نفسها!
ويقفز من يقول “انظر إلى أخطر بلد في العالم” ويضع صورة لزحام الأهالي في معرض دمشق الدولي منذ أيام، وكأنّ هذه الكلمات الثأريّة تعكس الطوعيّة الاجراميّة للقبول بموت الآلاف تحت الأرض في أفرع النّظام من أبناء البلد الواحد لمجرد الاختلاف بالرأي، مع غياب تام لأي قضاء نزيه، بينما أجهزة الموت الاستخباراتيّة تتجسس على النّاس حفاظاً على رهابها. ووزارة “الثقافة” تدجّن الثقافة والأدب والفنون لحفظ تجهيلها حسب نهج الأب القائد، ووزارة الأوقاف تتجذّر في الدّين السّياسي لبعث التخلف وقيادة الجوامع والكنائس والطوائف كما يريد القائد، وبالنهاية لا أحد يشعر بالطاعون! كيف إذا كانوا هم سببه ومسبّبّه؟
عندما نواجه وننتقد ونتخلص من تلك المصائب تنتهي كارثة الموت الجماعي ويمكن الحديث عن سبل نشر الوعي، الّذي أظن أنه يجب ألا يتوقف عند إغلاق بوابة دمشق الشرقيّة بهذا الفيضان الاحتجاجي – الفخ المستهلك، بأمر “دعائي” حتّى تفتح البوابة بعد قليل من الانتقادات على الانترنت، فقط من خلف الشّاشات، وهذا هو المطلوب أمنيّاً لدى الأسد، بينما آلاف المقابر الجماعيّة في البلاد تشيّد فوق كل من يريد أن يعرف الحقيقة أو يفكر بالديموقراطيّة أو حتّى يحتج ضدّ الظلم والاستبداد بكلمات وصرخات وأحلام، ويريد لسورية أنّ تكون موحّدة وحرّة ضد كل تلك الميليشيات والمرتزقة والجيوش “الضامنة” احتلالها لنا!
عذراً التعليقات مغلقة