* خالد الدخيل
ظل وقت الأسئلة الحرجة على عتبة الأحداث لمدة طويلة ينتظر من يلتقطه ويسلط الضوء عليه. الطائفية تعصف بالمنطقة، موضوع يستحق مواجهة تتناسب مع خطورته. لكن هناك تهرباً من مواجهته. هل يشكل هذا سياجاً أمام هذه الخطورة؟ كانت الأحداث ولا تزال تدفع بالإسئلة الحرجة عن الطائفية إلى الواجهة. في المقابل هناك إعراض متعمد، ومقاومة واضحة من قبل النخبة السياسية والثقافية لتفادي ما تنبئ به، وما تنطوي عليه الأحداث من طائفية مقيتة.
لم ينتبه كثيرون إلى المسافة الكبيرة بين طبيعة الأحداث على الأرض، وبين التصور السياسي والثقافي لها. المواطن العادي (السنّي والشيعي والمسيحي والعلوي واليزيدي وغيرهم) هو أول من أدرك أن الطائفية هي محرك الأحداث، في العراق أولاً، ثم سورية واليمن، وقبل ذلك في لبنان. العراقي أول من استشعر ذلك منذ بدأ النفوذ الإيراني في العراق من بوابة الاحتلال الأميركي. كان المواطن ولا يزال هو من يدفع ثمن العاصفة بالتمييز في المعاملة أولاً، ثم بالتهجير والقتل. من ناحيتها تتفادى النخبة الثقافية والسياسية مواجهة الأمر.
إيران وحلفاؤها في العراق ولبنان ثم سورية هم أول من بدأ يتحدث عن الطائفية، لدى السنّة العرب تحديداً، وأن دور إيران وهؤلاء الحلفاء محصور في محاربة هذه الطائفية. لو أن إيران ليست «الجمهورية الإسلامية» التي تجعل من هويتها وأهدافها الطائفية إلزاماً دستورياً لسياساتها الداخلية والخارجية، لأمكن القول إن خطابها ينطوي على صدقية لا يمكن التنكر لها. ولو أن إيران هذه لم تتبنَّ مشروع تمويل وتسليح وتدريب الميليشيات قبل الغزو الأميركي بعقود، وتغطيتها سياسياً في المنطقة لصدّقنا بأنها تحارب الطائفية، وبالتالي لا يعود هناك من خيار غير التعاون معها في مثل هذه المهمة.
بالنسبة الى إيران المشهد في المنطقة هو مشهد صراع عربي – إيراني. لكنها تستخدم خطاب محاربة الطائفية كواجهة أيديولوجية لحرب تريدها، أو تعتبر أنها اضطرت إليها. هنا أستشهد بما قاله مسؤول إيراني سابق، وأكاديمي يعمل حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، في ندوة تحت عنوان «حوار عربي – إيراني» عقدت في الدوحة في 29 أيار (مايو) الماضي. لا تسمح لي شروط الندوة، وكنت أحد حضورها، بذكر اسم المسؤول الإيراني. لكنه في معرض حديثه عن أسباب التدخل الإيراني في العراق وسورية الذي كان محوراً رئيسياً في الندوة قال هذا المسؤول إن وقوف السعودية ودول الخليج (لم يسمّ غير السعودية ودول الخليج العربي) مع العراق في حرب الثماني سنوات مع إيران (1980 – 1988)، أقنع القيادة الإيرانية بأن حماية الأمن الإيراني باتت تتطلب نقل خطوط الدفاع عن هذا الأمن من داخل إيران إلى داخل الدول العربية المجاورة. وقد كرر هذا المسؤول، وهو معروف في أوساط مراكز الأبحاث، بأنه زار السعودية مرات عدة ضمن وفود رسمية، وشارك في التفاوض مع مسؤولين سعوديين على رأسهم العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله.
تكمن أهمية ما قاله المسؤول السابق في أنه أول تصريح شبه رسمي عن حقيقة الدوافع التي تحرك السياسة الإيرانية تجاه جوارها العربي، بعيداً من شعارات «المقاومة ومحاربة التكفيريين والعداء لإسرائيل». وتنطوي هذه الحقيقة على خطورة لا يمكن المبالغة فيها. تأمل في ما قاله. فكرة نقل خطوط الدفاع عن الأمن الإيراني إلى داخل العالم العربي تعكس شعوراً حاداً بأن إيران تفتقد لعمق إستراتيجي يوفر لها خط الدفاع الأول عن أمنها القومي. وقد استشعرت هذا في الحرب العراقية – الإيرانية. لكنها من هذا المنطلق فكرة تتطلب احتلال أجزاء من العالم العربي. مأزق إيران والعالم العربي معها أنه احتلال لا يمكن له إلا أن يكون مغلفا. يبدو أن إيران تعلمت من الصراع العربي الإسرائيلي. ومما تعلمته أن الإحتلال السافر يستفز الشعوب ومعه يستفز مقاومة شعبية لا قبل لإيران بها. هي تقدم نفسها على أنها دولة الشيعة في العالم. ولأنها كذلك، ستكون حليفة القوى السياسية الشيعية (وليس الشيعة، هكذا بإطلاق) ذات المنحى الطائفي ونصيرها في الدول العربية. تحت ظلال هذا الواقع يتغلف الاحتلال الإيراني، وهو احتلال غير معلن في كل من العراق وسورية. لكن معالمه واضحة: النفوذ الثقيل داخل دوائر صنع القرار المحلية، والتواجد العسكري الرسمي، أو شبه الرسمي من خلال ميليشيات تابعة لإيران، والتحالف مع قوى محلية في كل من هذين البلدين على أساس طائفي. ينتظم كل ذلك مساعدات عسكرية وإستخباراتية ومالية وسياسية تربط حاجة النظام السياسي في كل من العراق وسورية بالسياسات والمصالح الإيرانية في المنطقة. من جانبها أعلنت الحكومة العراقية الأسبوع الماضي على لسان وزير خارجيتها، إبراهيم الجعفري من حزب «الدعوة»، عن تعيين الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، «مستشارا» للحكومة العراقية. وهذا إعلان يتجاوز في خرافيته حدود المعقول. لكن الطبقة السياسية الحاكمة في العراق طبقة رثة حتى في خيالها السياسي. لا يعنيها كثيراً أن «المستشار» هنا غلاف آخر لعودة مفهوم المندوب السامي إلى العراق.
الاحتلال الطائفي يأتي نتيجة حرب طائفية. ومثل هذه الحرب تستهدف بالضرورة طائفة دينية بعينها، على رغم أنها في الأخير حرب مدمرة لكل الطوائف. والطائفة المستهدفة الآن في العراق هم السنّة، ومعهم المكونات الأخرى بمن فيهم الشيعية التي ترفض النهج الطائفي. تأمل إيران في أن يصبح العراق تحت حكم حلفاء شيعة عمقها الإستراتيجي الذي تفتقده في المنطقة. ولتحصين هذا العمق تحتاج إلى سورية. فالغالبية السنية الكبيرة في قلب الشام تمثل خطراً كبيراً على العراق المحتل لو تسنى لها الوصول إلى الحكم. ليس من الحكمة، ولا من المصلحة إنكار واقع الحال المحتدم هذا. بل إن الحكمة والمصلحة تتطلبان مواجهة الواقع، وعدم الهروب من حقيقته تحت أوهام أخلاقية منفصلة عنه. لكن المواجهة يجب أن تتجه لتغيير الواقع وإنقاذه مما يراد له أن يغرق فيه. ومن ثم بدلاً من إنكار الطائفية يجب محاربتها ومن يغذيها أو يحتمي بها. وإذا كان السنّة هم المستهدفون الآن، فإن من يحتاج الإنقاذ ليس السنّة فقط. الجميع يحتاج ذلك. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف قبل مواجهة إيران بحقيقة ما تفعله وما تسعى إليه في العراق وسورية. وقبل ذلك مواجهة النخبة السياسية والثقافية العربية التي تنكر واقع حال المنطقة، وتختفي وراء مبررات أخلاقية لا أساس لها.
* نقلاً عن “الحياة”
عذراً التعليقات مغلقة