قريباً من القلوب.. بل فيها تماماً.. تجده دائماً… ولأنه عاش ينتظر الحرية والأحرار، كنا نجده يجلس في منتصف الطاولة غالباً، ليراه الجميع.. جميع رواد مقهى النوفرة العريق بدمشق.
ولأن طلاب الحرية يعيشون قلق الاعتقال والتغييب عن حلمهم الجميل، ما لبث بعد فترة أن نقل لقاءاته مع الشباب المتحمس إلى المقهى المقابل.. ظناً منه أنه أقل عرضة لرقابة مجرمي أجهزة الأمن.
إنه “الخال”، لقبه الأحب إلى قلبه.. غسان سلطانة، عاشق سوريا النبيل.. أحد أبناء الثورة السورية اليتيمة، وحراس الحلم بها، حتى آخر نفس في صدره، ابن “قلعة الحصن” المشرعة صدرها على هواء البحر، والتي أورثته رقة طبيعتها وصلابة حجارها معاً.
إنه السوري العابر للانتماءات، المسيحي الذي كان يحمل القرآن والإنجيل.. ووردة حمراء، كرموز لوطن فاح عبير شهدائه كرمى للحرية.
محظوظة أنا كثيراً.. محظوظة بأن القدر جعلني ابنة ثورة كان “الخال” أحد أحرارها، ومحظوظة جداً أني التقيت به عدة مرات في دمشق، كان آخرها قبل مغادرته سوريا مجبراً، بأيام قليلة.
كنا نتقاطر فرادى إلى المقهى في ترتيبات حذرة، وضمن احتياطات كنا نظنها كافية لتحمينا من (كبسة) أمنية.. وما إن نبدأ بالحديث عن الثورة ويرتفع الصوت قليلاً ويشتد الحماس عند الشباب حتى يشير “الخال” لأحد من الشباب كي يراقب المدخل.. ويتناوب شباب الحرية بعدئذ على حراسة حواراتنا وترتيباتنا ليوم ثوري قادم.
كان الشباب المسحورون بالثورة.. الحالمون بانتصارها.. يحبون غسان ويقدسون ثباته وعشقه لسوريا.. ويتمسكون بلقاء ملهمهم والإصغاء له.. حتى غدا “الخال” كما أحب أن يسميه أصحابه.
قال لي مرة: “حين سأصل القاهرة سأقف في أحد ساحاتها وكأني مصلوب، كما المسيح الفادي، لأفدي ثورتنا.. وربما أعلن إسلامي.. أو أقلها أكون قد لفت نظر الكثيرين لما يحصل بسورية”.
ابتسمت.. وأنا أفكر بهذا المغامر وجنونه الجميل المدهش في حب وطنه.
كنا مجموعة من أصحابه نستمع لما قاله بدهشة، ولم يعلن أي منا تعليقاً عن ما قاله.
كثرٌ من شباب وصبايا الثورة كانوا يحيطون به كظله، وهم يعلمون ماذا كان يقدم لمساعدة أبناء المناطق المتضررة التي ثارت على النظام الأمني المجرم وذاقت الاهوال.
ما زلت أذكر ذلك اليوم الربيعي.. خرجنا من المقهى ومشينا بإتجاه قلعة دمشق ندندن أغاني أظنها كانت لسيد درويش.. بعدها بأيام علمت أن الخال قد غادر إلى القاهرة وأن مرض السرطان كان يفتك بجسده، ليخطفه منا أخيراً.. ويأخذه من أهله ومن ثورته ومنا.. بلا رحمة.
مات الخال في مثل هذا اليوم من العام 2013، والحلم بإنتصار الثورة يعيش معه حتى آخر أنفاسه، وهو يوصي بأن يُكفن بعلمها.
اليوم… وأنا أقلب ذاكرتي المترعة بحكايات توجع القلب عن السوري الجميل غسان سلطانة، أتساءل: هل كان محظوظاً بأن لا يرى قهرنا وخيبات ثورتنا في هذه الأيام القاسية؟
عذراً التعليقات مغلقة