ارتكبت النخبة الأميركية، على مدار ثماني سنوات في سورية، كل الأخطاء التي يُفترض أن يقرأها هواة السياسة في كتيب إرشادي لدى محاولة فهمهم عالم السياسة، ذلك أن من أكبر أخطاء السياسة أن يتحول عمل طرفٍ إلى رصيد يصب في خانة الخصم.
أدارت أميركا دورها في الأزمة السورية بطريقةٍ لا يتمناها لها سوى خصومها. ديمقراطيون وجمهوريون، وتقنيون ومحترفون، كامل الطيف السياسي الأميركي، تساندهم كبريات مراكز التفكير، وعتاة الدبلوماسيين المحترفين والمفكرين الاستراتيجيين، انخرطوا في وضع تصورات وسيناريوهات ورسم استراتيجيات للتعاطي مع الأزمة السورية، وكانت النتيجة دائماً أخطاء تُبنى على أخطاء.
وقد شكلت طريقة إخراج الضربة على مواقع للنظام في سورية أخيراً ذروة تلك الأخطاء التي انبنت على خطأ تكتيكي، قام على تحديد خط أحمر من دون بناء خط مواز له من الإرادة والتصميم، وتحويل المسألة إلى شكل من المناكفة وموسم لاستعراض القوّة.
والواقع أنه بات ملحاً التفكير بطريقةٍ مختلفة بمسألة الخط الأحمر، ليس باعتبارها ضمانةً من دولة عظمى لحمايةللشعب السوري من الكيميائي، بقدر ما هي حماية مستقبلية لأميركا من إمكانية مساءلتها عن موقفها الانتهازي حيال المذبحة التي يتعرّض لها الشعب السوري، وهي القوّة التي بشّرت شعوب العالم، عشية إعلانها انتهاء التاريخ لمصلحتها، أن مذابح رواندا والبلقان لن تتكرر، وأسسّت على هذا الوعد عصرها العالمي.
تفيد القراءة المنطقية للخط الأحمر بأن النخبة الأميركية افترضت أن نظام الأسد لن يلجأ لهذا السلاح، طالما أنه يملك أريحيةً وهامشاً واسعاً في استخدام كل أنواع الأسلحة التي تحقق له القضاء على خصومه، بما فيها الأسلحة غير المرئية، مثل عمليات الإبادة في السجون لعشرات آلاف السجناء، والاستنجاد بقوى ومليشيات من دول الجوار، فضلاً عن استخدام سياسات الأرض المحروقة، وإزاء كل هذا الكرم فإن التقدير الأميركي يقوم على عدم حاجة نظام الأسد لاستخدام أسلحة كيميائية، وبذلك لا بأس من الاستقواء بالتهديد بالعقاب، في حال خرق الخط الافتراضي.
ولم تكن المعالجات التالية لهذا الخطأ أفضل حالاً، خصوصاً أن المعطيات في سورية كانت تتغير بأسرع من قدرة الأميركيين على مجاراتها، طالما هم فضلوا الركون على هامش الأحداث، واكتفوا بأن يضعوا ساقاً على ساق في شرق سورية، ويعتقدوا أن الآخرين سيراعون هذا الوجود، ويأتون لاحقاً لمفاوضتهم على وضع ترتيبات مستقبل سورية ونظام الحكم فيها.
والحال، أن خصوم أميركا انتبهوا إلى هذا الخلل الفاضح في التفكير الأميركي، وسارعوا إلى صناعة واقع جديد في سورية، لا يجعل تأثيرها سلبياً وحسب، بل ويضمن أن أي تصرّف لها في مواجهتهم يصب أوتوماتيكياً في أرصدتهم، وهو ما جعل الورطة الأميركية مركبة، وجعل تأثيرها لا يتعدى الجعجعة من دون طحين.
وقد اتضح ذلك جلياً في الضربة أخيراً، فلكي تنفذ وعيدها، خاضت أميركا مناورة واسعة جداً، وشكلت تحالفاً من ثلاث قوى عظمى، وحرّكت أقوى قطعها العسكرية البحرية، لتصطدم بحقيقة عدم وجود بنك أهداف لأكثر من ثلاثة مواقع يمكن ضربها، وهي أهداف كان في وسع ثلاث طائرات من الجيل الأول القيام بها، وإن كل هذا التحريك للقوات كان مجرد مصاريف زائدة.
وهذا راجعٌ، بدرجة كبيرة، إلى المعطيات التي صنعتها كل من روسيا وإيران في سورية، ونتيجتها تحوّلت سورية إلى بلد محتل من هاتين الدولتين، وجميع الأصول العسكرية وغير العسكرية قد آلت لهما، وبالتالي ستجد أميركا وغيرها دائماً صعوبات في استهداف نظام الأسد وعقابه، حتى لو كانت النية صادقةً في هذا المجال، وأي محاولة لتوسيع دائرة الاستهداف ستتعثر بالروس والإيرانيين، وأميركا ليست مستعدة للدخول في حربٍ مباشرة مع هذين الطرفين لحسابات كثيرة.
وما دام الأمر كذلك، فإن لعبة الخط الأحمر تكون قد وصلت إلى خواتيمها، فمن الطبيعي أن الأسد الذي لم يعد يملك من أصول دولته شيئاً، خصوصاً في المستويات العسكرية، ليس سوى واجهة في لعبة الكيميائي، فليس من المعقول أن روسيا وإيران اللتين تديران مسرح المعركة من السماء والأرض تغفلان عن جزئية استخدام السلاح الكيميائي، بل المنطقي في هذه الحالة أن الأمر منسقٌ بينهما، ومدرجٌ على لائحة أهدافهما الإستراتيجية، كما أن لديهما تصوّراً لحدود ردة الفعل الأميركي، بناء على ما أوجداه من معطياتٍ تضيّق هامش التحرك الأميركي، وأكثر من ذلك توظّفه لصالح خططهما المستقبلية في الصراع.
ولعل مراجعة بسيطة للأحداث التي سبقت قصف الغوطة بالكيميائي تكشف أن روسيا وإيران كانتا متضايقتين جداً من الحملات الإعلامية والدعائية ضدهما بسبب أعمالهما الوحشية في الغوطة وفي ريف إدلب، وكان صعباً استكمال السيطرة على بقية المناطق، في إدلب وجنوب سورية، تحت ضغط تلك الحملات، وجاءت الضربات الغربية لتمسح كل ما حصل، وتجدّد طاقة الماكينتين الروسية والإيرانية لمتابعة مسارهما الإجرامي، ولكن هذه المرّة ليس بوصفهما دولتين معتديتين ونظاماً وكيلاً، بل أطرافٌ مقاومةٌ للهيمنة الغربية وأدواتها في سورية والمنطقة.
ماذا في وسع أميركا أن تفعل بعدما كشفت أوراقها كاملة؟ ألم تُسلّم ما تبقّى من سوريين، لروسيا وإيران، لأن تفعلا فيهم ما تشاءان من دون استعمال السلاح الكيميائي؟، حتى لو تم استعماله، هل ستجد في المرّة المقبلة موقعاً لنظام الأسد تستهدفه؟
عذراً التعليقات مغلقة