قال مركز كارنيغي للشرق الأوسط، إنه في الأشهر الأخيرة، بدا أن قادة المخابرات الغربية والإقليمية يتقرّبون من نظام الرئيس بشار الأسد. ويتردد أن أبرز محاوريهم من الجانب السوري هو علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، وأيضاً رأس الحربة في جهود النظام لتطبيع العلاقات مع العالم. الأسبوع الماضي، أفادت صحيفة الأخبار المقرّبة من حزب الله والنظام السوري، أن مملوك زار مؤخراً روما حيث التقى ماركو مينّيتي، وزير الداخلية الإيطالي، وألبرتو مانينتي، رئيس وكالة أمن المعلومات والأمن الخارجي، وهي جهاز الاستخبارات الخارجية الإيطالية. وقبل عامين، التقى مانينتي بمملوك والأسد في دمشق.
واعتبرت الدراسة الصادرة عن المركز أن نظام الأسد يعتبر أن إيطاليا هي المدخل للولوج إلى أوروبا، والتعاون الاستخباري هو ذريعة ممتازة لتطبيع تدريجي للعلاقات مع الحكومات الأوروبية. قد يبدو مثل هذا التطبيع مستبعداً على المستوى الدبلوماسي، خصوصاً في ضوء العقوبات الأوروبية على نظام الأسد. لكن، مع ترسخ التقارب على أساس استخباري، قد تتعاظم فرص تطبيع العلاقات وتزخيمها. وهذا بالتحديد ما تراهن عليه دمشق، على الأقل في خضم لعبة الانتظار الدبلوماسية الراهنة.
وأضاف في السياق نفسه، شدّد برونو كال، رئيس جهاز المخابرات الفيدرالي الألماني، في مقابلة نُشرت مؤخراً، على الحاجة إلى اتصالات مع سورية للحصول على معلومات عن الدولة الإسلامية والقاعدة. وتتردد في كلامه هذا أصداء ما ذكرته كذلك الأخبار في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عن زيارة مسؤول في الاستخبارات الأميركية دمشق للقاء مملوك. وبحسب الصحيفة، تناول الطرفان مسائل أمنية وملفات مواطنين أميركيين مفقودين في سورية. ليس جلياً بعد ما إذا كانت الزيارة حصلت فعلاً أم لا، خصوصاً في وقت يبدو من مصلحة النظام السوري وحلفائه الإيحاء بأن حكومات أجنبية على صلة بدمشق. وفي تقرير استند إلى مقال الأخبار، نسبت وكالة رويترز إلى “مسؤول إقليمي” مقرّب من دمشق وصفه الزيارة بأنها كانت أرفع خطوة لمسؤول أميركي إلى سورية منذ بدء الحرب في 2011.
فيما تُعتبر مثل هذه اللقاءات، إذا ثبت حدوثها، تمهيدية ويتعذّر التبنؤ بنتائجها، إلا أن مساعي مملوك المبكّرة سجّلت بعض النجاح، إذ يُعزا الفضل إليه لاستئناف العلاقات الأمنية مع مصر في عهد عبدالفتاح السيسي. معروف أن تقارب القاهرة من النظام السوري كان فرصة ثمينة للأسد: فمقابل تشاطر المعلومات الاستخبارية حول مئات الجهاديين المصريين في سورية، حازت دمشق على موطئ قدم عربي بعد سنوات مديدة من العزلة الدبلوماسية العربية.
وبالفعل، زار مملوك القاهرة بعد العام 2015 في عدد من المناسبات لمقابلة خالد فوزي، الرئيس السابق للمخابرات العامة المصرية. فوزي هذا، الذي أقيل مؤخراً من منصبه، تفاعل مع هذه الزيارة، وزار دمشق في العام المنصرم. وعلى رغم أن العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين لاتزال مُعلّقة، يُقال إن للمخابرات المصرية مكتباً ناشطاً في دمشق يشارك في عملية إرساء وقف إطلاق النار واتفاقات مناطق خفض التصعيد، ويتبادل المعلومات عن المجموعات الجهادية.
ويدور كلام حول استئناف مملوك للعلاقات الاستخبارية مع تركيا، التي تُعتبر أبرز داعمي المقاتلين السوريين المعادين للنظام. وزعمت تقارير إعلامية صدرت باللغة العربية، ومنها ما نُشر على الموقع الإلكتروني للنشرة المُعارضة التركية، زمان، المُقرّبة من خصم سياسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن مملوك التقى في وقت مبكّر من العام الجاري هاكان فيدان، رئيس جهاز الاستخبارات التركية، في قاعدة حميميم العسكرية في سورية.
التثبت من هكذا تقارير أمر عسير، خصوصاً أنها تُنشر في قنوات تملك أجندة سياسية. غير أن تصريح ابراهيم قالين، مستشار أردوغان، عزّز صدقية هذه التقارير، إذ أقرّ الشهر الماضي بأن “أجهزة الاستخبارات التركية والسورية تتواصلان حين تدعو الأوضاع في سورية إلى ذلك”.
قبل الانتفاضة السورية في 2011، لعب مملوك دوراً حيوياً في إحياء العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة مقابل التطبيع السياسي. حينها، لم يكن لواشنطن سفير في دمشق، كما كان الحال منذ سنوات. وفي لقاء عُقد خلال شباط/فبراير 2010 في دمشق مع دانيال بنجامين، وكان يومها منسّق وزارة الخارجية الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب، تحدّث مملوك عن رغبة النظام في إحراز تقدّم في العلاقات في إطار “مظلة سياسية”. التقدّم هذا يشمل العلاقات السياسية بين سورية والولايات المتحدة ورفع العقوبات الأميركية عن الأولى. أماط اللثام عن مضمون هذا اللقاء موقع ويكيليكس، الذي نقل عن مملوك قوله في تقديمه استراتيجيته الأمنية حيال مسألة المقاتلين الإسلاميين: “مبدئياً، لانهاجمهم ولانقتلهم على الفور. بل نندس بينهم ولانتحرّك إلا في اللحظة المناسبة”. رسالة مملوك واضحة من غير لبس. إذا منحت الولايات المتحدة سورية حافزاً سياسياً لمكافحة الجهاديين، ستبادر إلى القيام بذلك، وإذا لم تفعل، قد يتسلل هؤلاء (الإسلاميون) عبر الحدود.
بغض النظر عن نجاحات مملوك السابقة، إلا أن قرار النظام تعيينه لتوجيه دفة المفاوضات هو مسعى عيّاب هدفه تبرئة نفسه من انتهاكات حقوق الإنسان بذريعة تحقيق الأمن الدولي. فمملوك ضالع في قمع المعارضين في سورية. وهو، وفق تقرير صادر عن هيومان رايتس واتش في 2012، يشرف على ستة مراكز اعتقال تعجّ بآلاف المعتقلين، وكلهم، بمن فيهم الأطفال، تعرضوا إلى صنوف من التعذيب إما بالكهرباء أو الاعتداءات الجنسية، أو الضرب، أو التشويه الدائم، انتهت في حالات كثيرة، بالقتل. بكلمات أخرى، يتربّع مملوك على عرش امبراطورية تعذيب. وتطبيع العلاقات مع سورية مقابل معلومات استخبارية يبث حياة جديدة في غرف التعذيب.
علاوةً على ذلك، ثمة مذكرة توقيف لبنانية صادرة باسم مملوك. ففي آب/أغسطس 2012، ألقى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبنانية القبض على ميشال سماحة، وهو وزير سابق وحليف مخلص للنظام السوري. وقد ذُهل لبنانيون كثر حين عرضت محطات التلفزة المحلية صور 24 قنبلة وُجدت في منزله. وكشفت الأدلة البصرية والسمعية واعترافات سماحة نفسه أن مملوك هو من زوّد سماحة بأجهزة التفجير، للمساعدة في اغتيال سياسي سنّي في اجتماع عام، ورجل دين مسيحي بارز أثناء زيارة مرتقبة إلى شمال لبنان. ورمى هذا المخطط آنذاك إلى زعزعة استقرار لبنان.
بعد شهرين، قُتل وسام الحسن، رئيس فرع المعلومات الذي يقف وراء اعتقال سماحة، في سيارة مفخخة شرق بيروت. وفي وقت لم يتوصّل التحقيق إلى نتيجة، وجّه سياسيون لبنانيون أصابع الاتهام إلى مملوك بالوقوف وراء الجريمة.
بعد عام على وجه التمام من اعتقال سماحة، استهدف تفجيران مسجدين للسنّة في طرابلس خلال صلاة الجمعة، وقضى فيهما 50 مدنياً وأصيب 800 جريح. وكشف أحد الموقوفين أنه على اتصال بعلي مملوك في سورية، أي الرجل نفسه الذي أشارت التقارير إلى أنه زار روما لمقابلة نظيره الإيطالي الشهر الماضي.
قد يزعم بعض قادة الاستخبارات الأوروبية أن تبادل المعلومات (مع النظام السوري) قد يساهم في تعزيز أمن أوروبا. لكن يجب أن يُقاس هذا الخيار بمدى الأخطار الأخرى. فغضّ الطرف عن جرائم نظام الأسد قد يُسبغ مشروعية على أعمال جلبت الخطر الإرهابي إلى أعتاب القارة، مع بضع الملايين من اللاجئين.
عذراً التعليقات مغلقة