مع مرور سنوات على بدء ثورتنا المباركة ودنوها من أعتاب عامها الثامن لا تزال ذكرياتها تجول في أذهان الناس من حين لآخر، ولا يزال أهالي بلدتنا عموماً وحارتنا خصوصاً يتحدثون عن قصة (بشار) وهو كلب عاش في الحي الذي نقطن فيه مذ كان جرواً صغيراً يقتات فضلات الطعام التي يقدمها له الأهالي.
في إحدى المظاهرات السلمية استدرج أحد الشبان المتظاهرين ذلك الكلب عبر تقديم بعض العظام له وكتب على ظهره (بشار الأسد) وأخذه إلى وسط المظاهرة حيث التف المتظاهرون حوله على شكل دائري وراحوا يقفزون ويهتفون الهتافات الثورية، ويبدو أن الفكرة أعجبت بشار فأصبح يرافق المتظاهرين كلما خرجوا بمظاهرة.
ومع تطور أحداث الثورة وسلوكها طريق الكفاح المسلح أصبح بشار يطل يومياً على نقاط رباط الثوار الذين كانوا بالأمس متظاهرين واعتاد رؤيتهم والخروج معهم.
كان “بشار” يتميز بنباحه الشديد فوق الساتر الترابي حين يرى تحركات حواجز نظام الأسد، وهذا ما دفع القناص المتمركز في الحاجز إلى إطلاق رصاصة غادرة على الكلب وإصابته في أعلى قدمه الأمامية، فقام الثوار بالرد على مصادر النيران للحؤول دون إصابة بشار برصاصة أخرى قد تفنيه.. ولأن بشار ليس مجرد كلب وإنما هو رفيق درب وفيّ للثوار ركض أحدهم مخاطراً بحياته تحت وابل من الرصاص وحمله بين ذراعيه وذهب به إلى أمه العجوز التي تدعى (أم جابر) وسرعان ما طببته واعتنت به حتى شفي تماماً.
لكن؛ بعد تلك الليلة، لم نشاهد بشار يتسلق الساتر الترابي ويعبر خلفه كما المعتاد.. ترى هل كان يدرك ما يتربص به خلف الساتر ويعلم أن القناص يترصد لقتله؟. مرت الأيام واختفى صوت نباح بشار فوق الساتر الترابي حين تتحرك قوات الأسد، وأصبح قليل الإطلال على نقاط الرباط بل كان يهرب منها كلما سمع صوت الرصاص ويكتفي بالركض إلى كل مقاتل يراه في الطريق يحمل بندقية ويلبس الجعبة العسكرية فيلتف حوله ويقفز أمامه وكأنه يرحب به. -سبحان الله- لم ينس هذا الكلب الأيام التي قضاها مع الثوار ومازال يكن لهم الوفاء لأنهم أنقذوه من الموت.
في ليلة شديدة القصف، سقطت قذيفة هاون قرب بشار وأصيب على إثرها بشظية صغيرة اخترقت عنقه، قادته غريزته إلى باب منزل (أم جابر) التي عالجته مرة أخرى واهتمت بجرحه أكثر مما تهتم بصحتها المتدهورة. ومازلت أذكر تسابق أهل الحارة من أجل إحضار الطعام إلى بشار والاطمئنان عليه في بيت أم جابر التي كانت تمازحهم بقولها (قريضة تقرضكم.. قريضة.. بتستفقدوا بشار وما بتستفقدوا هالعجوز المريضة).
وبعد أيام قليلة، توفيت أم جابر بعد صراع مع مرض عضال، وأتى بشار إلى باب منزلها مرة أخرى ولكن أحداً لم يفتح له الباب فأخذ ينبح وينبح حتى أيقن جميع سكان الحي أن بشار مريض وبحاجة إلى العلاج، ولما دنونا منه وجدنا ورماً والتهاباً شديداً في مكان دخول الشظية، وسعينا جاهدين إلى محاولة علاجه ولكنه أبى أن نلمس جرحه فركض هارباً ومكث غير بعيد ينظر إلى أعلى الساتر الترابي حتى صعد إليه وأخذ ينبح نباحاً شديداً باتجاه حواجز النظام، فركضنا إليه مسرعين محاولين إنزاله عن الساتر خشية إصابته برصاص القناص ولكنه كان قد اتخذ قراره وعبر إلى الجهة الأخرى من الساتر ومشى باتجاه حواجز النظام، وعمّ الحزن جميع أهل الحارة فيما ذهب بعض الأطفال إلى نقاط الرباط القريبة من الحي راجين الثوار إعادة بشار سالماً إلى الحي ولكن الأوان قد فات وصار بشار على أعتاب حواجز النظام.
وبعد وهلة قصيرة سمعنا أصوات انفجارات متعددة، عرفنا بعدها أن بشار دخل حقلاً للألغام وتطايرت أشلاؤه في الهواء تحت أنظار المرابطين الذين صدحت حناجرهم بتكبيرات عمت أرجاء الجبهة، كلها لأن هذا الحيوان البسيط كسر أهم الخطوط الدفاعية التي تعتمد عليها حواجز النظام ومهد الطريق إلى تقدم الثوار للسيطرة على تلك المنطقة.
ومع أن بشار كلب عادي إلا أنه استطاع كسب محبة الأهالي والثوار رغم ظلمهم له حين أسموه بهذا الإسم كناية ببشار الأسد الذي لا يملك أدنى صفات ذلك الكلب… نزل الكلب عن الساتر الترابي ليفتدي بروحه من أحبه وأحسن إليه بينما لم ينزل “الرئيس” عن كرسيه من أجل حقن دماء أهل بلده.. أصبح الكلب حديث الناس في الشجاعة والبطولة و”الرئيس” مضرب المثل في القتل والإجرام… ويا ليت “الرئيس” تعلم من الكلب شيئا.
عذراً التعليقات مغلقة