تابعنا جميعاً الضغوط التي مورست على أعضاء الوفد المفاوض في جولة مفاوضات جنيف الثامنة، ولم يصدمنا قول ديمستورا لهم بأن العالم تخلى عنكم، وهذا يحيلني لما سبق وشرحته في سلسلة حكاية سوريا، من أن موقعنا الجيواستراتيجي لا يسمح لقوى دولية تفكر بالهيمنة أن تتهاون في وصول قوة شعبية للحكم، وأوضحت أن طول فترة الاستبداد وسعي النظام الحثيث للدفع نحو صراع مذهبي وقومي ومناطقي و.. الخ أي الدفع نحو صراعات ما قبل سياسية، كان يقابله تفرق المعارضة السياسية ومحاولات البعض الهيمنة والاستفراد بالقرار معتمداً على دعم الدول، وابتعاده عن الشارع والشعب، وفصلت في شرح الأسباب التي أوصلتنا لما نحن عليه الآن.. وأتناول في مقال اليوم القسم الثاني من حكاية المعارضة السياسية السورية..
عرضت في القسم الأول من حكاية المعارضة السياسية السورية، والمقالات التي سبقته من سلسلة حكاية سوريا، أن المعارضة السياسية السورية نشأت في ظل الاستبداد، وكانت متفرقة تغلب عليها الأنانية، ودخلت معترك العمل السياسي في الثورة بنفس العقلية، عقلية الهيمنة والأنانية، وكانت بشكل أو بآخر نتيجة هذا النظام المستبد، ولم ترقى لتطلعات الشعب الذي قدم ما عليه من تضحيات. ولولا صمود الشعب لكانت الثورة انتهت منذ زمن.
لقد أدت صراعات المعارضة بين بعضها البعض، والإرتكان للدعم الدولي ولسان حالهم يقول (لدينا اعتراف من أكثر من مئة دولة)، إلى إنتاج معارضة سياسية مشوهة ابتعدت عن الشارع الثائر، ولم تنظم طاقات الشعب، ولم تعمل على نشر قيم الحرية والديمقراطية، ولم تشجع على تكوين الأحزاب السياسية، وهي الأساس في أي عملية سياسية، فعدم وجود أحزاب سياسية سيؤدي لتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع ما قبل سياسي، صراع عشائري وقبلي ومذهبي وديني وقبلي … صراعات متخلفة تدمّر بدلاً من أن تبني.
قد يكون مشهد مؤتمر القبائل والعشائر السورية الذي انعقد في إسطنبول الأسبوع الماضي، ومشهد الإعلان عن حزب سياسي من داخل مخيم الركبان، أكبر دلالة على التناقضات التي تحدثت عنها، تناقض المعارضة السياسية التقليدية التي رهنت مصيرها لإرادة الدول، فوصل بنا الحال لمؤتمر توحيد العشائر بدلا من مؤتمر توحيد الأحزاب والقوى السياسية، وقد نشهد غدأ مؤتمراً آخر للمصالحة بين قبيلتي عبس وذبيان، مع بوسة شوارب وانهاء حرب داحس والغبراء. بينما كان الاعلان عن إطلاق حزب سياسي من داخل مخيم النازحين في الركبان، يعبر عن رغبة الشعب المهجر اللاجئ الباحث عن حريته، صاحب المصلحة الحقيقية في تنظيم نفسه ونجاح ثورته.
الأول بحث عن مكانة وزعامة لشخصيات، وعقد في فندق فخم، والثاني خرج من مخيم نازحين، ما أكبر التناقض بين المشهدين!! مشهد العشائر والبداوة في فنادق فخمة، ومشهد الانتماء للثورة والسعي لتنظيم طاقات الناس، وزجهم في المعركة السياسية الهادفة لانتصار الثورة السورية، وتحقيق أهدافها بالتحول من نظام مستبد قاتل إلى نظام ديمقراطي عادل، فمنذ متى كانت العشائرية والقبائلية أساس بناء الدولة الحديثة؟!.
ان اعتماد المعارضة السياسية على سياسة الهيمنة والاقصاء والبحث عن مكاسب فردية ونجاحات شخصية والاعتماد على العلاقات والدعم الدولي أدى لارتهان هذه المعارضة لهذا الدعم، وتراجعت علاقات المعارضة مع القوى الدولية، وأصبحت تتدخل في الشاردة والواردة، وسيطرت على القرار الوطني، وتحولت المعارضات المختلفة إلى منصات تتبع الدول، فبتنا نسمع عن منصة الرياض والقاهرة وموسكو وحميميم بدلاً من أن نسمع عن منصة سورية المؤلفة من حزب كذا وحزب كذا، وأصبحت هذه المنصات والمعارضات تعمل في غالبها ضمن مصالح هذه الدولة أو تلك، كما تراجعت الحلول السياسية من رحيل الأسد التي تبنتها الجامعة العربية، إلى مقترحات جنيف، إلى مبادرة ديمستورا.
أيضاً أدت الصراعات بين أفرقاء المعارضة لتسرب الأجهزة الأمنية إلى داخل تنظيماتها، وتدميرها والتشجيع على الانشقاقات والتي أدت بدورها أيضاً لابتعاد الناس عن السياسة، والإرتكان للأحلام والشعارات، والعسكر ثم إلى التطرف.
على سبيل المثال .. شجعت مخابرات الأسد الخلافات داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، ودفعت عضو مكتبه السياسي، وأمين فرع دمشق، ورئيس اللجنة العربية لحقوق الانسان، للانشقاق عن الحزب، والعودة لصفوف النظام والموافقة على سياساته، وشجعت أيضا فاتح جاموس القيادي بحزب العمل الشيوعي، والسجين السياسي السابق الذي ناضل ضد الاستبداد، وحكم أسرة الأسد، ودفعته ليقف بجانب النظام، وليشكل حزباً بنفس اسم الحزب الذي ناضل ضد الاستبداد، ودفع أثماناً كبيرة من حرية كوادره وقيادته في سجون عائلة الأسد .
انعكست هذه الاختراقات على أداء مناضلي هذه الأحزاب، وعلى الناس بشكل عام، واستنكف قسم كبير منهم عن العمل السياسي، مما أتاح لمن لا يملك الخبرة والمعرفة، واتاح للمتسلقين فرصة الظهور.
أيضاً لم تستطع كوادر تنسيقيات الثورة التي شكلها الشباب الواعي المثقف أن يفرض وجودها، وتراجع عمل التنسيقيات مع تولي الكوادر غير المؤهلة قيادتها، بعد أن استهدف النظام الصف الأول والثاني من هذه الكوادر المثقفة الواعية، بإجرام غير طبيعي، فقتلها أو اعتقلها أو هجرها، لتأتي كوادر أخرى غير مؤهلة وتستلم العمل، فتأثرت بدفع النظام والقوى الدينية، وسمحت بخروج الشعارات الدينية والمذهبية، ومن ثم انخرطت بسهولة بالعمل العسكري والتطرف، وحققت رغبة النظام، وساعدته.
وهكذا استطاع النظام تحقيق ما يريد من حرف الثورة عن مسارها وتشويه صورتها بسبب غياب التنسيقيات وانقسامات قوى المعارضة السياسية المختلفة، ففقدت الثورة قيادتها وخسرت الكثير، ولولا صمود الشعب وعدم تقبله النظام نهائياً لتوقفت الثورة منذ فترة طويلة.
لقد كان لبعثرة المعارضة وصراعاتها دور كبير في انحراف الثورة، وتحويل الصراع من صراع لأجل الحرية، صراع أخلاقي بين حق وباطل، إلى صراع عربي كردي أو سني شيعي، أو …، أي صراع ما قبل سياسي، صراع غير أخلاقي، وتسبب أيضاَ في الاختراقات الكبيرة التي تعرضت لها الثورة.
الهيمنة والبحث عن النفوذ في أوساط المعارضة السياسية تسببت أيضاً في هيمنة الدول على مؤسسات المعارضة، ولم يقتصر هذا التدخل على الهيمنة السياسية، فقد أصبحت أجهزة مخابرات هذه الدول هي المهيمنة، فصرنا نعرف أن فلاناً رجل مخابرات الدولة الفلانية وفلاناً رجل مخابرات الدولة الأخرى، وصرنا نعرف أن المخابرات السعودية كتبت لفلاناً خطابه الشهير، ومخابرات كذا كتبت وثيقة الاجتماع الفلاني وهكذا، وهو ما أفقدنا التعاطف والدعم الشعبي من شعوب العالم.
عذراً التعليقات مغلقة