منذ انطلاق الحراك المطالب بالحرية والكرامة في سورية عام 2011، كان الموقف الأميركي يعاني من تباين بين تصريحاته وبين فعله على الأرض، لا سيما عقب ازدياد العنف المفرط من قبل النظام بهدف قمع التظاهرات المناهضة له، والتي دفعت بشكل مباشر لتحول الحراك السلمي إلى حراك مسلح بعد أقل من عام، وبقي الموقف الأميركي غير جلي على مدى السنوات الماضية في عهد باراك أوباما، قبل أن يستمر الأمر نفسه مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة، وإن كان الأخير لا يتردد بالمجاهرة بجزء من توجهاته، بما في ذلك اتهامه الصريح، ليل الاثنين – الثلاثاء، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، بارتكاب جرائم “فظيعة” ضد الإنسانية وتعهده منع نظامه من شن مزيد من الهجمات الكيميائية، فضلاً عن تحميله سلفه باراك أوباما جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الأزمة السورية.
كما لم يتردد ترامب في الدفاع عن قرار إنهاء البرنامج السري لوكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” لدعم المعارضة السورية، في الوقت الذي قلل قادة فصائل معارضة تحدثوا مع “العربي الجديد”، من أهمية البرنامج وتأثير توقيفه، لا سيما بسبب محدوديته أخذاً بعين الاعتبار الشروط والمعايير التي كان يعتمدها، في تكريس للموقف الأميركي المتذبذب منذ سنوات تجاه دعم صريح للمعارضة، والأولويات التي تضم منع مهاجمة النظام وأمن إسرائيل في المرتبة الأولى.
تاريخ من التردد
في فبراير/ شباط 2013، قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي في ذلك الحين، باراك أوباما، رفض العام الماضي (أي 2012) تسليح المعارضين السوريين. يومها حدد المتحدث باسم البيت الأبيض، جاي كارني، الأولوية بالنسبة لواشنطن قائلاً إنها تتمثل في “ضمان عدم وقوع السلاح في أيدي من يمكن أن يهددوا أمن الولايات المتحدة وسورية أو إسرائيل”. واستمرت الولايات المتحدة في وضع فيتو على الدول الإقليمية لعدم تسليح المعارضة بأي أسلحة نوعية أو ثقيلة.
وتحت ضغوط ازدياد القتل اليومي في سورية، وخرق “الخطوط الحمراء” التي وضعها أوباما في شهر يوليو/ تموز 2012، بارتكاب النظام السوري مجازر عدة باستخدام السلاح الكيماوي، إضافة إلى الضغوط الاقليمية من الحلفاء، اتخذت الولايات المتحدة قراراً بدعم المعارضة العسكرية لكن بشكل محدود.
أعلن وزير الخارجية الأميركي في ذلك الحين، جون كيري، في نهاية فبراير/ شباط 2013، أن بلاده تعتزم لأول مرة تقديم مساعدات غير فتاكة لمقاتلي المعارضة السورية وأنها ستزيد مساعداتها لها لأكثر من الضعف، وكانت هذه المساعدات عبارة عن أجهزة رؤية واتصال ومناظير وهوائيات وسترات ضد الرصاص، وغاب عن ذلك الدعم النوعي.
وأعلن البيت الأبيض لأول مرة عزم واشنطن على تسليح المعارضة السورية بشكل مباشر في 14 يونيو/ حزيران 2013. وأوضحت الإدارة الأميركية أنه، بالرغم من تأكيدها أن الأسد تجاوز “خطاً أحمر” رسمه أوباما في ما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية، فإنها تعتزم أن تتحرك بحذر وبالتنسيق مع حلفائها في ما يتعلق بالخطوات التي يجب اتخاذها.
وشكلت حينها ما تم التعارف عليه باسم “غرفة الموك” في الأردن وغرفة “الموم” في تركيا، ويتمثل الأميركيون في الغرفة عبر وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه”، إلى جانب 7 دول مما تعرف بالدول الصديقة للشعب السوري، ونحو 20 فصيلاً من فصائل الجبهة الجنوبية والبادية والقلمون الشرقي.
وتفيد تقارير إعلامية بأن “غرفة الموك” تقدم مختلف أشكال الدعم للفصائل المنضوية تحت لوائها مقابل الالتزام بشروط عدة، من أهمها عدم المساس أو الاقتراب وتهديد الحدود الإسرائيلية بأي طريقة كانت، حماية الحدود مع الجولان المحتل من أي تسلل إلى داخل إسرائيل، وعدم إقرار أو شن أية معركة أو عملية عسكرية إلا بموافقة من الغرفة عن طريق ممثلي الفصائل. ويضاف إلى ذلك الالتزام بكل ما يصدر عن غرفة الموك من مختلف الأوامر، كالانسحاب أو الهجوم، عدم الاقتراب من محافظة السويداء وبعض القرى الدرزية في القنيطرة والإقرار بحقها في الوجود، التأكيد على دولة مدنية و”سورية الحديثة” محترمة للأعراق والمذاهب، محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة خاصة تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وحركة المثنى الإسلامية ولواء شهداء اليرموك المبايعة للتنظيم. وفي حال خالف فصيل هذه الشروط تتم “معاقبته” بطرائق عدة، كقطع الإمداد، وإيقاف الرواتب عن مقاتليه.
ومع تسارع الأحداث في سورية، بما في ذلك سيطرة تنظيم “داعش” المصنف أممياً كمنظمة إرهابية عام 2014، إضافة إلى انتشار “جبهة النصرة” فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام، تحولت أولوية الولايات المتحدة إلى قتال هذه التنظيمات. وبدأت وزارة الدفاع الأميركية برنامجاً خاصاً بدعم الفصائل المسلحة المعتدلة، كما تصفها، لقتال “داعش” والتنظيمات المتشددة. ومع تشظي الفصائل المسلحة المعارضة بسبب قلة الدعم طوال السنوات السابقة، توجه الأميركيون إلى دعم الأكراد، عبر “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة”، والذين شكلوا في ما بعد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، ومن ثم دعموا “جيش سورية الجديد” الذي تمت إعادة هيكليته وتشكيل “قوات مغاوير الثورة”.
وأوقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أخيرا برنامج “سي آي إيه” الخاص بمساعدة المعارضة السورية معتبراً أنه “ضخم وخطير وغير فعّال”، فيما تؤكد فصائل في المعارضة أنها لم تتبلغ بعد رسمياً بالأمر.
وبعدما تحدثت تقارير إعلامية عن أن قرار ترامب جاء لإرضاء الروس، نفى قائد القوات الأميركية الخاصة الجنرال توني توماس ذلك قائلاً: “إن القرار لم يتخذ إرضاء لروسيا الحليفة الرئيسية للنظام السوري من أجل التوصل معها إلى تسوية للنزاع المستمر منذ أكثر من ست سنوات”.
ولا تبدي فصائل معارضة قلقاً جراء وقف البرنامج، مؤكدة أن مساهمته كانت محدودة وتقليدية. وقال مسؤول الإعلام في قوات أحمد عبدو – قطاع البادية” سعيد سيف، وهو أحد الفصائل المشمولة ببرنامج دعم وكالة الاستخبارات الأميركية، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الدعم الأميركي بشكل عام هو دعم تقليدي لا يسمن ولا يغني من جوع”، مبيناً أن “غرفة الموك غير متواجدة على الأرض بشكل فعلي وهي غير عسكرية وفيها سياسيون وخبراء عسكريون، ولا تشبه دعم وزارة الدفاع الأميركية لجيش مغاوير الثورة وقوات سورية الديمقراطية (قسد)، حيث تؤمن الوزارة الإسناد الجوي والأسلحة الثقيلة وغيرها من الأسلحة النوعية”.
ولفت إلى أنهم “موجودون إلى جانب فصائل الجبهة الجنوبية وقوات الشهيد أحمد عبدو على الأرض منذ سنوات ولم يشهدوا يوماً من الأيام، لا على أيام داعش قبل أن يتمكنوا من طردها ولا أيام النظام، أي تواجد للأميركيين معهم على الأرض أو إسناد من الجو، بالرغم من أن الدول عامة، لا سيما التحالف، يكثرون من الحديث عن محاربتهم لداعش”، موضحاً أن “بقاء دعم وكالة الاستخبارات الأميركية أو توقفه لن يكون له تأثير يذكر على عملنا”.
وأعرب سيف عن “توافقه مع تصريحات ترامب جزئياً، معتبراً أن البرنامج لم يكن مجدياً بالفعل في ما يخص بعض الفصائل في الشمال، لا سيما تلك التي سلمت مستودعات أسلحة كبيرة جداً في حلب قبل مغادرتها، والتي كانت تمول من غرفة الموم، والتي صدر قرار من أجلها وتم فصلها بالفعل”.
ورأى القيادي في قوات أحمد عبدو أن “الدعم الأميركي لم يفد المعارضة ولا 1 في المائة، بل ساهم بشكل كبير في تشتيت المعارضة، واعتماد فصائل الجيش الحر على السلاح المقدم منها، وهي التي كانت تعتمد على نفسها في تأمين السلاح عبر الاقتحام والحصول على السلاح، أما اليوم فهي لا تتقدم من دون وجود تمهيد بالراجمات وقواعد صاروخية، والتي هي بالأساس غير فعالة ولا مجدية”.
من جهته، قال المتحدث الإعلامي باسم “جيش أسود الشرقية” سعيد الحاج، وهو أحد الفصائل المشمولة بغرفة الموك عبر الجبهة الجنوبية، لـ”العربي الجديد”، إن “الدعم الأميركي ينقسم إلى قسمين، دعم ضمن غرفة الموك عبر برنامج سي آي إيه، وهو دعم لوجستي يشمل عتاداً متوسطاً مثل آليات مشاة، سيارات بيك أب، بنادق قواذف آر بي جي؛ ودعم وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، وهو دعم جوي ودعم سلاح وعتاد وقيادة أميركية”.
وأضاف “دعم سي آي إيه يسمح بقتال النظام وداعش، ولا توجد أي تفرقة بذلك، ونحن لم نكن نتعرض لأي ضغط حول المعارك التي كنا نخوضها مع الطرفين، أما دعم البنتاغون فهو مشروط بعدم قتال النظام ويعترض بشدة على كل من يقاتل النظام، ويسمح فقط بقتال داعش”. ولفت إلى أن “الدعم الذي كان يقدمه مشروع سي آي إيه لا يرقى لحجم وضخامة المعارك الدائرة مع النظام ومع ذلك استطعنا استنزافه”.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة