كان من المفترض حين سقوط غرناطة آخر ممالك الأندلس، بقاء المسلمين فيها وفق معاهدة السلام التي تم توقيعها آنذاك، والتي نصت على انسحاب الجنود وعوائلهم ومن يرغب، مقابل بقاء المدنيين المسلمين والسماح لهم بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، لكن وبعد سنوات قليلة بدأت حملات تنصير واسعة، تحولت إلى ما بات يعرف تاريخياً بمحاكم التفتيش، انتهت بترحيل جميع المسلمين الرافضين للانخراط بعقيدة الدولة الجديدة.
لا يبعد كثيراً تعاطي إيران في سوريا وتحديداً في العاصمة السورية دمشق وأريافها عما جرى في الأندلس، فمنذ أن انخرطت طهران في سوريا سعت إلى تعزيز قوتها في دمشق وريفها وحتى حمص، من خلال تشكيل ما يعرف حالياً بميليشيات الدفاع الوطني، وعملت فيما بعد على تقطيع أوصال مناطق سيطرة فصائل المعارضة إلى جيوب عسكرية معزولة عن بعضها، وبدأت بفرض تسويات محلية انتهت بإجبار المقاتلين وعوائلهم ومن يرغب بالخروج نحو الشمال السوري، واستطاعت من خلال هذا الاستراتيجية تشكيل طوق أمني في محيط العاصمة، عززته بتوطين مئات العوائل الشيعية الأجنبية سواءً من العراق أو لبنان أو غيرهما.
ما قامت به طهران في العاصمة ومحيطها وفي حمص، عملياً هو تهجير لأي تمرد محتمل من قبل المعارضين للنظام السوري، مثلما فعل الإسبان بالمسلمين في الأندلس، ويمكن تسميته بـ «تهجير الثورة» نـحو الشمال السوري.
وبات من المعلوم أن إيران تستخدم الأيديولوجية الشيعية في الترويج لنفسها كقوة إقليمية في المنطقة، وبالتالي فهي تحتاج لانتشار التدين الشيعي في أماكن سيطرتها، مثلما فعلت في العراق ولبنان وغيرهما، ولهذا السبب تقوم باستجلاب أكبر قدر من العوائل الشيعية للمناطق التي يتم فيها فرض تسويات تهجير للمعارضة نحو الشمال، وتسارع إلى تجنيد الأهـالي ضمن الميليـشيات التي تقـودهـا.
مؤخراً، أتم النظام السوري اتفاقاً يقضي بتهجير 25 ألفاً من أهالي حي الوعر في حمص، غالبيتهم من المقاتلين وذويهم، نحو الشمال، وهذا الرقم هو من أصل 100 ألف يسكنون في الحي، بعضهم نازحون من محافظات أخرى، ومن الملاحظ في الاتفاق الأخير هو تدخل روسيا التي قامت برعايته رسمياً، ويأتي ذلك على الرغم من الخلافات السياسية بين طهران وموسكو، إلا أن الطرفين باتا فيما يبدو يخشيان من حصول أيّة حالة تمرد شعبي في مناطق سيطرة النظام السوري.
ويطرح إصرار النظام السوري خلال جميع الاتفاقيات التي جرت، على حصر التهجير نحو الشمال، تساؤلات عن أسباب رفضه خروج المقاتلين نحو الجنوب باتجاه درعا أو حتى الغوطة الشرقية، فأما هذه الأخيرة، تبدو الإجابة عنها واضحة؛ إذ من الطبيعي منع تعزيز قوة فصائل المعارضة شرقي العاصمة دمشق، التي تسعى إيران إلى جعلها آخر الجيوب العسكرية للمعارضة من أجل الهجوم عليها. وأما درعا فتعتبر الجبهة الأخطر بالنسبة للنظام السوري، فأي تعزيز لقوة الفصائل في الجنوب يعني جعل الخاصرة الجنوبية لدمشق رخوة ومعرضة للخطر بأيّة لحظة، ويمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح، من خلال متابعة المعركة التي شنتها فصائل الجنوب على حي المنشية، ما ساهم في تعزيز صمود فصائل الغوطة الشرقية أمام الهجمات المتلاحقة عليها.
ما سبق، يوضح أن إيران تسعى إلى ترسيخ قوة النظام السوري في مناطق الجنوب السوري التي باتت تشكل ثقله العسكري والأمني باستثناء درعا، مقارنة مع الشمال الذي ما زال رخواً حتى في مواقع سيطرته في حلب، وهذه الاستراتيجية، تساهم في جعل الشمال أمام خيارات عدة، فإما أن يشن النظام حينما ينتهي من تأمين دمشق –إن استطاع– هجوماً للسيطرة عليه، وقد يحتاج في ذلك إلى تعزيز قوته في حلب وتأمين محيطها عسكرياً، ولهذا السبب نجده يتجه لشن عمل عسكري للسيطرة على ريفها الشمالي بعدما قام بـ «تهجير الثورة» من المدينة التي بسط السيطرة عليها.
وفي حال لم تستطع إيران بالاشتراك مع روسيا بطبيعة الحال، تمكين قوة النظام السوري في الجنوب السوري أي تأمين دمشق من ناحية الغوطة الشرقية، وأيضاً في حلب ومحيطها، فسيكون احتمال القبول بخيار إقامة مناطق حكم ذاتي خاضعة لسيطرة فصائل المعارضة هو السيناريو المتوقع الذي دفعه لتهجير جميع المقاتلين وذويهم نحو الشمال، وحتى لو حصل هذا الاحتمال، فإن النظام قادر على الاستفادة منه، من خلال تكرار تجربة الشيشان والمعروفة بـ (الشيشنة)، وهي فكرة قامت على تحويل الحرب في البلاد من قتال شيشاني – روسي إلى صراعات شيشانية داخلية، تحولت الغلبة فيها إلى فصائل استمالتها روسـيا إلى طرفهـا.
وفي المحصلة، يبدو بشكل واضح أن إيران وأيضاً روسيا تسعيان عبر الاستفادة من التجارب التاريخية، لفرض نفوذهما في سوريا، والتخلص بشكل تدريجي ممن تمردوا ضد حكم النظام السوري بغرض إعادة إنتاجه من جديد، وبالتالي إن إنهاء أيّة حالة تمرد في مناطق سيطرة هذا الأخير في العاصمة دمشق أو حمص، هو ضرورة استراتيجية بالنسبة لإيران، بالشكل الذي يسهل عليها تمكين قوتها مستقبلاً العسكرية والسياسية في سوريا مثلما فعلت في العراق ولبنان من قبل. ويبقى الشمال السوري خيارا متبعا ضمن سياسة أكثر ما تكون قريبة من ترحيل المشكلات.
المصدر: القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة