كل ثورة، باصّة إذا ووجهت بعنف، أو انتهجت العنف كرد فعل، تتضمن خسارات بشرية ومادية مهولة، وهذا حال الثورة السورية، منذ ستة أعوام. فحتى في عامها الأول (السلمي) شهدنا مصرع 400 – 500 ضحية، ناهيك عن المفقودين والمعتقلين.
بيد أن الحديث هنا لا يتعلق، فقط، بالخسائر البشرية والمادية، غير المسبوقة، التي تعرض السوريون لها، والتي نجم عنها تخريب مدنهم، مع ضحايا يقدرون بأكثر من نصف مليون، وحوالى عشرة ملايين لاجئ ونازح، وإنما عن خسارة هذه الثورة لنفسها كثورة، أو عن إخفاقاتها على هذا الصعيد، من دون أن يقلّل ذلك من مشروعيتها وعدالتها وضرورتها، وهذا مع تفهّمنا لتعقيداتها والقوى المضادة لها والتلاعبات الخارجية فيها.
مثلاً، لم تتمكّن الثورة السورية من الحفاظ على نفسها باعتبارها ثورة وطنية ديموقراطية حقاً، أو لم تستطع أن تمثّل ذلك في خطاباتها وبناها وممارساتها، إذ ظهرت، مع غياب الكيانات السياسية الوطنية، كأنها ثورة جماعة معينة، وإن كانت هذه الجماعة لا تعرّف نفسها كطائفة، لأن «السنّة» لم يعقدوا لواءهم ولا ولاءهم لأحد، لا لحزب مدني، ولا لفصيل عسكري، ولا لدولة ولا لزعيم أو شيخ أو إمام، على نحو ما حصل عند الجماعة الإسلامية الأخرى التي تليهم في الحجم («الشيعة»).
فوق ذلك فهذه الجماعة لم تكن موحدة، بل بدت متفرقة، وفق المناطق، أو تبعاً للكيانات العسكرية المسيطرة. وفي المحصلة، فإن هذه الثورة لم تستطع أن تجذب أو أن تستقطب، الجماعات الأخرى، التي تمثل موزاييك سورية، الطائفي والإثني، إلى الدرجة اللازمة، ما أضعف طابعها كثورة وطنية.
أيضاً، وتبعاً لما تقدم، فهذه الثورة لم تستطع التعامل مع المسألة القومية، لا سيما منها الكردية، أولاً، لتجاهلها هذه القضية، أو استخفافها بها. وثانياً، لاعتبارها أنها قرين للتقسيم. وثالثاً، بحكم غياب الطابع الديموقراطي للثورة ذاتها. والأهم من كل ذلك أن المتحكمين بمسارات الثورة نظروا إلى المسألة الكردية، ليس على اعتبارها جزءاً من المسألة السورية، أي جزءاً من الثورة الوطنية الديموقراطية، وإنما باعتبارها مسألة خارجية، أي وفقاً للمنظور التركي تحديداً. طبعاً هذا لا يعفي القوة الكردية المهيمنة، وهي حزب الاتحاد الديموقراطي (وميلشياته المسلحة)، من مسؤوليتها عن إثارة هذه المخاوف عند السوريين، لا سيما مع اختلاف الأحزاب الكردية ذاتها، حول رؤيتهم لمستقبل الكرد ومستقبل سورية، وبحكم المواقف والممارسات التي أثارت شبهة التعاون مع النظام، فضلاً عن ممارسات هذا الحزب التسلطية في المناطق التي يسيطر عليها. مع ذلك فإن السكوت عن الفصائل الإسلامية المسلحة، واختلاف أعلامها، واضطراب خطاباتها، وتشكيلها ما يسمى «محاكم شرعية»، مع ممارساتها التسلطية في المناطق التي تسيطر عليها، لا يستقيم مع النبرة الحادة، والنظرة العدائية أو الاقصائية، التي ووجه فيها حزب الاتحاد الديموقراطي، بسبب مواقفه وممارساته. والمعنى أن نقد ممارسات هذا الحزب، وميلشياته، كان يفترض أن يتصاحب مع نقد الفصائل الإسلامية المسلحة، التي فعلت الشيء ذاته في مناطقها، لأن الطرفين أضرا بالثورة السورية وبصورتها وصدقيتها، وبوحدة السوريين.
ولعل أهم خسارات الثورة السورية أنها خسرت طابعها كثورة ديموقراطية، باعتبارها أصلاً قامت من أجل إنهاء نظام الاستبداد، وهذا مبرر وجودها الأساسي. والحال فإن هذه الثورة لم تستطع أن تنتج كيانات سياسية ديموقراطية، في نمط الثقافة والعلاقات، بحيث تطبع الثورة بطابعها، بل إن الفصائل العسكرية الإسلامية، التي تصدرت المشهد، بدت كمحاولة لإعادة إنتاج الاستبداد، بلبوس ديني، أو باستخدام الدين، مع قيام ما يسمى «محاكم شرعية»، وفرض تصورات معينة للدين غريبة عن مجتمع السوريين، تتدخل في الشؤون الخاصة، وفي طريقة العيش والملبس، إلى درجة أن المناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل باتت بيئة طاردة للسوريين، لا سيما للنشطاء الثوريين، بدل أن تكون بيئة جاذبة لهم، أو بيئة تشكّل نموذجا بديلاً عن النظام.
الأهم من ذلك أن هذه الفصائل، التي تتغطى بالدين، دخلت في صراعات واقتتالات في ما بينها، على الأراضي والمكانة والسلطة، إذ إسلاميون يقتلون إسلاميين، بحيث أضحى العنف الوسيلة لخلق التوازنات على الأرض، لا الحوار أو قوة النموذج.
في هذا السياق، مثلاً، شهدنا أن «الائتلاف»، وهو الكيان الأبرز للمعارضة في الخارج، لم يتحول إلى كيان وطني ديموقراطي تستظل به، أو يحتضن، مختلف كيانات وتيارات الثورة السورية، بل ظل كياناً مغلقاً، يفتقر إلى روح المؤسسة والعمل الجماعي والعلاقات الديموقراطية. فوق ذلك فهذا الكيان ظل يغطي على «جبهة النصرة» أو جبهة «فتح الشام»، طوال السنوات الماضية، على رغم أنها حاربت «الجيش الحر» وأزاحته عن المشهد تماماً، وعلى رغم أن هذه الجبهة لم تنضو يوماً في الأطر السياسية والعسكرية للثورة، ولا تعترف بها أصلاً وتناهض مقاصدها في الحرية والمواطنة والديموقراطية. وحتى البيان الذي صدر بإدانة هذه الجبهة أخيراً، من قبل «الإئتلاف» (أواخر كانون الثاني/يناير الماضي)، صدر بعدما أتت التوجيهات من دولة معينة، وبعدما أصدر بعض المشايخ موقفاً مماثلاً.
بناء على ذلك كله، فالثورة السورية بالشكل الذي سارت عليه، وبالخطابات والكيانات التي تصدّرتها، خسرت كثيراً من الزخم الشعبي الذي صاحب بداياتها، ومن صدقيتها، كما خسرت كثيراً من قدرتها على استدرار تعاطف العالم معها، لأن العالم لا يقف مع الحق، على بياض، وإنما يحتاج إلى ما هو أكثر إقناعاً، أي يحتاج إلى تمثل قيم العدالة والحرية والمساواة والديموقراطية، وهو ما عجزت الثورة السورية عن تمثله، تماماً مثلما عجزت عن فرض ذاتها كممثل للسوريين، ولتطلعاتهم نحو مستقبل أفضل، بظهورها كمن يخضع لتلاعبات أو توظيفات هذه الدولة أو تلك.
مرة أخرى، هذا لا يقلل من أهمية الثورة السورية، وشرعيتها وعدالتها، فكل الثورات خضعت لضغوط وتدخلات وتلاعبات خارجية، ولكل الثورات أثمانها وتداعياتها الباهظة، لكن الحديث هنا يتعلق بمدى تقبل العامل الذاتي أو عدم تقبله لها، سكوته عنها أو مقاومته لها.
عذراً التعليقات مغلقة