- عمر إدلبي
قبل أن يسدل العام الماضي ستارة نهايته بيومين أعلنت روسيا وتركيا توصلهما إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين مختلف الأطراف في سوريا على أمل أن يكون تمهيداً لإطلاق عملية تفاوض في أستانا عاصمة كازخستان، وقد أثار هذا الإعلان تساؤلات كثيرة حول دوافع روسيا، وقدرتها في حال جديتها على تحقيق اختراق حقيقي في عملية التسوية.
الاتفاق شابه الغموض غير البناء، من حيث شموله أو عدم شموله جميع جبهات القتال، كما من حيث عدم شموله فصيل “جبهة فتح الشام”، ورافقته شكوك بالتزام قوات الأسد ومليشيات إيران الطائفية به، وفي النهاية لم يصمد وقف النار ولا حتى ساعات أمام الرغبة الجامحة للأسد وحلفائه بتحقيق المزيد من الإنجازات العسكرية بعد “انتصار حلب”.
جهود مضنية بذلها الروس والأتراك للتوصل لهذا الإعلان، ولكل من الطرفين دوافعه، فالحاجة الروسية للتهدئة والتقاط الأنفاس لا تخطئها عين، حيث عمل الروس بدأب على احتواء الغضب العالمي من الجرائم التي ارتكبتها قواتهم في حلب، وعمل الأتراك ما بوسعهم لرفع الحرج عن سياستهم التي بدت في الفترة الأخيرة مطواعة للغاية أمام الخطط الروسية الرامية لتأكيد سطوتها على تفاصيل المشهد السوري.
ولأن الإعلان عن إطلاق مفاوضات أستانا جاء برغبة روسية أولاً، وباندفاعة وموافقة تركية ثانياً، فإن فحوى عملية التسوية التي تفكر بها القيادة الروسية وتؤيدها تركيا يبدو محل شكوك من جميع أطراف الصراع، التي يرى بعضها في روسيا عدواً، وبعضها الآخر يصنف تركيا عدواً.
قراءة تداعيات الأحداث على الساحة السورية في الفترة الأخيرة، يظهر أن الروس نجحوا فيما خططوا له، فهم لم يفوتوا ما انتظروه من فرص توقعوها في الشهور الأخيرة من ولاية أوباما ليغتنموا أكبر مكاسبهم من تدخلهم العدواني ضد ثورة السوريين، وكما لم يفوت الروس فرصة إحجام حلفاء الثورة عن دعمها بأسباب الصمود أمام الهجمة الروسية الشرسة المسنودة بقوات الأسد وحلفائه من القوات الإيرانية والمليشيات الطائفية الشيعية، والسيطرة على حلب وتهجير مدنييها وطرد ثوارها..
فإنهم لم يفوتوا أيضاً الفرصة التي لاحت لهم من عرض التعاون التركي لإنجاز وقف العمليات العسكرية وجس نبض مختلف الأطراف المتصارعة واختبار مدى استعدادها لنقل الصراع إلى طاولة مفاوضات تمنح القيادة الروسية فرصة الظهور بمظهر الراعي لعملية تسوية سياسية وتخفيف الأضرار المحتملة لنتائج عدوانها العسكري وجرائم قواتها بحق المدنيين في سوريا، وتغيير صورتها كدولة داعمة لنظام دموي قتل وهجر وشعبه من أجل الاحتفاظ بالسلطة.
أما الطرف التركي فقد جنى من التحولات الأخيرة في سياسته تجاه الملف السوري وتحالفه المستجد مع روسيا مكاسب واضحة، كرست نفوذاً تركياً واسع التأثير في المشهد السوري، وأبعد إلى حين شبح مخاطر مشروع المليشيات الكردية لإقامة منطقة نفوذ لهم في الشمال السوري تهدد الأمن القومي التركي.
القيادة التركية ظهرت غير عابئة بالشكوك والانتقادات الموجهة لسياستها الجديدة من قبل قوى الثورة والمعارضة السورية، ليس هذا فحسب، فالأتراك تجاهلوا كل المخاوف التي عبر عنها الثوار بوضوح من الذهاب بوضعهم الضعيف الحالي إلى مفاوضات أستانا، لا بل تؤكد الوقائع أن القيادة التركية مارست وتمارس الضغوط على الثوار وقادة المعارضة للجلوس في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير الجاري على طاولة محادثات تفتقر للحد الأدنى من الضمانات التي لا يمكن لأي عملية تفاوض أن تنجح في غيابها.
العملية السياسية المزمع إطلاقها في أستانا تبدو غير جدية وتفتقر لأسباب النجاح، فالروس والأتراك يقدمون أنفسهم ضامنين لها، وكل منهما في حقيقة الأمر طرف في الصراع، وإن كنا نرجح وجود رغبة ومصلحة تركية حقيقية في العمل على حل سياسي يزيح عن كاهلها تبعات الصراع السوري الذي جلب لتركيا مشاكل من صنف ولون، فإننا بالمقابل نعتقد بأن روسيا تمارس خداعاً لا شك فيه من خلال إعلان نفسها ضامناً لعملية التسوية، في حين تواصل عدوانها السافر الوقح الإجرامي على الشعب السوري الثائر.
ولا يوجد عاقل يصدق أن الروس اقتنعوا أن مصلحتهم تقتضي الإقرار بمشروعية مطلب الثوار في إنهاء نظام الأسد الدموي، وأنهم سيتوقفون عن استخدام طائراتهم وصواريخهم وأسلحتهم المحرمة دولياً في التعامل مع مطلب الثوار هذا، ولو كانوا في أي وقت من الأوقات جادين في طرحهم لحل سياسي غير منحاز بالكامل للأسد لما استخدموا حق النقض في مجلس الأمن في مواجهة كل محاولة لإجبار الأسد على التوقف عن قتل شعبه، أو حتى إدانة جرائمه التي يعرف الروس جيداً أن العالم لم يشهد مثيلاً لبشاعتها إلا في بلادهم عندما قتل واعتقل وعذب ستالين الملايين من شعبه تكريساً لسلطته المطلقة.
ومن يعتقد أن رعاية وضمانة الروس لهذه المحادثات جدية في الوقت الحالي هو في الحقيقة كمن يعتقد بجدية الذئب في رعاية وضمان سلامة الخراف، ومن يراهن على رغبة أو قدرة الروس على لجم وحشية مليشيات الأسد وخامنئي وطموحاتهم لإخضاع السوريين الثائرين بالعنف والمجازر عليه أن يقرأ جيداً مغزى إعاقة هذه المليشيات لاتفاق تهجير مدنيي حلب وثوارها، وخرقهم اتفاق وقف إطلاق النار، وشنهم هجومين وحشيين دمويين في وادي بردى والغوطة الشرقية.
وعلى من يتوهم أن الخلافات بين الروس من جهة والإيرانيين والأسد من جهة ثانية، يمكن أن تفجر هذا التحالف بما يؤدي لإضعاف جبهة الأسد وحلفائه، عليه أن يراقب ويقرأ تصريحات القادة الروس عن مشروعية الهجمات على وادي بردى والغوطة الشرقية، ودعمهم المطلق لهذه الهجمات، رغم ضمانهم لاتفاق وقف إطلاق النار، وعليه أيضاً أن يفكر ملياً بالأسباب -إن وجدت- التي ستجبر أو ستدفع الإيرانيين ونظام الأسد للقبول بحل سياسي ينتزع منهم مكاسب لم يخسروها في ساحة ميدان المعارك، في ظل عدم قدرة الروس على الذهاب بعيداً في ضغوطهم على حلفائهم، فالروس يدركون أن لا شرعية لوجودهم في سوريا دون وجود الأسد، ولا مكاسب فعلية من آلاف الغارات لطائراتهم دون وجود مليشيات خامنئي الطائفية على الأرض.
صحيح أن الظروف الدولية والوقائع الميدانية لا تسمح بتوقع نتائج طيبة من مفاوضات أستانا خاصة في ظل رعاية روسيا لها، لكن ميادين الثورة ليست جبهات قتال بالأسلحة فقط، ومن واجب الثوار أن يستعدوا لميدان المفاوضات ويعملوا بكل طاقاتهم للدفاع عن حلم الحرية والكرامة، عبر إدارة واعية للعملية السياسية متسلحين بنفس مستوى الصلابة التي يبديها شعبنا في مقاومته وصبره على جرائم الأسد وحلفائه بمن فيهم الروس أنفسهم، وألا يكون التراجع الخطير الذي منيت به القوى العسكرية والسياسية للثورة السورية بعد معركة حلب سبباً أو مبرراً للقبول بحلول تهدر تضحيات شهداء ومعتقلي الثورة وملايين المهجرين الحالمين برائحة تراب وطنهم.
قد تكون مفاوضات أستانا محطة لالتقاط الأنفاس لا أكثر، ولسنا واهمين لنعتقد أنها ستنتج حلاً، فطريق الحل غير سالك بعد، كما أن الطريق إلى أستانا ملؤه الأوهام والألغام، لكن ما نؤكد عليه أنه من غير المسموح به أبداً أن تكون أستانا محطة فشل وتراجع جديد لقوى الثورة، فالحاضنة الشعبية لثورة المليون شهيد ومعتقل لا تحتمل مزيداً من الخيبات واهتزاز الثقة بقادة الثورة، أو من تبقى منهم محل ثقة.
عذراً التعليقات مغلقة