هل بقي واهمٌ يقول إن مشروع هلال إيران “الشيعي” لم يحقق أهدافه ويكتمل بعد؟
لا زلت أذكر موجة الاستنكار، بل السخرية والاتهامات بالتهويل التي قوبلت بها تصريحات الملك عبد الله الثاني عاهل الأردن في أواخر العام 2004 التي حذر فيها آنذاك من سعي نظام الملالي في طهران لإنشاء منطقة نفوذ، سماها آنذاك “الهلال الشيعي” يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق، وصولاً إلى بيروت، بعد ظهور مؤشرات مؤكدة تدل على أن الحكومة العراقية التي كانت على وشك استلام السلطة في بغداد ستكون بيد تيارات سياسية إسلامية شيعية موالية لنظام الولي الفقيه في طهران.
تحذيرات العاهل الأردني من تمدد النفوذ الشيعي وضرب التوازن القائم في المنطقة مع أكثريتها السنية وصفها البعض من قصيري النظر بالتهويلات، وبأنها محاولة لصرف الأنظار عن تراجع الدور العربي وتخاذل الدول العربية الكبرى، مصر والسعودية خاصة، في الصراع العربي الصهيوني، وتقدم الدور الإيراني على هذا الصعيد، لا سيما في دعم حركات “المقاومة المسلحة”، حركة حماس، والجهاد الإسلامي، ومليشيا “حزب الله”، وهي اتهامات صحيحة، لكنها لا تلغي حقيقة أن التحذيرات والمخاوف كانت صحيحة أيضاً.
المخاوف الأردنية لم تكن خاصة بالأردن كما ظهر لاحقاً، فقد نشر موقع ويكيليكس فحوى برقية صادرة عن السفارة الأمريكية في السعودية في العام 2009 تتضمن تحذيراً من رئيس المخابرات السعودية السابق الأمير مقرن لدبلوماسيين أمريكيين، جاء فيه أن “الهلال الشيعي” يتحول الى “بدر مكتمل” مع تمدد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
انتصار ثورة الملالي في طهران في العام 1979 كرست نظاماً حاكماً إيرانيا يتخذ من المذهب الشيعي رافعة له، إلا أن اختراق إيران للمجتمعات الشيعية العربية ظل بطيئاً و “ناعماً” طيلة عقدين، ولم تظهر المغامرات الإيرانية الهجومية “الشيعية الطابع” في عمق المنطقة العربية بشكل واضح إلا بعد سقوط نظام صدام حسين في بغداد، عقب الغزو الأمريكي في العام 2003.
هيمنت إيران على بغداد، أول عاصمة عربية تسقط في براثن مشروعها، عندما تمكنت القوى السياسية الشيعية العراقية التي دعمتها ودربتها ورعتها إيران لعشرات السنين من إحكام هيمنتها على الحياة السياسية، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، وإدارة الثروات العراقية، لتبدأ إيران انطلاقاً من هذا النصر الساحق المجاني على عدوها اللدود “العراق” في إحياء مشروع “تصدير الثورة”، الذي في جوهره لا يعدو كونه مشروعاً لبسط النفوذ على المنطقة العربية عبر ضرب الدول القائمة بسلاح القوى “الشيعية العربية” التي تدين بولاء ديني كامل مطلق للمرجعية الشيعية في قم.
لم تنتظر طهران كثيراً لتعلب النقلة الثانية من مشروعها على رقعة منطقة تفتقد لأي مشروع عربي مضاد جدي، وكانت الخطوة التالية في قلب عاصمة عربية ثانية، حيث أحكمت ميليشيا “حزب الله” الإرهابية سيطرتها المطلقة على العاصمة اللبنانية بيروت بعد هجوم عسكري ساحق في السابع من أيار/مايو في العام 2008، لتكسب القوى الشيعية المدعومة من طهران منطقة نفوذ جديدة.
أما في اليمن فقد حظيت مليشيا الحوثي “أنصار الله”، بدعم متواصل من طهران، مكنها من التحول إلى قوة عسكرية منظمة خارج إطار الدولة، وخاضت حروباً عديدة في مواجهة القوات اليمينة والسعودية، قبل أن تستولي على السلطة بدعم من القوات الموالية للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في انقلاب آب/أغسطس من العام 2014 وتسيطر على العاصمة صنعاء، لتسقط ثالث عاصمة عربية في قبضة قوى شيعة إيران.
ولم تحاول طهران في أي وقت إخفاء دعمها للمجموعات الشيعية المناوئة لنظام الحكم في البحرين، وبلغ بها الأمر حد التهديد بالتدخل إلى جانب شيعة البحرين إبان تحركاتهم الاحتجاجية الواسعة التي انطلقت في 14 شباط/فبراير من العام 2011، وتحولت إلى صدام مسلح، انتهى بإحكام قوات الأمن البحرينية السيطرة على الأحداث بدعم مباشر من القوات السعودية ووحدات درع الخليج.
ويرى مراقبون أن الموقف السعودي الحاسم، المدعوم بموقف موحد من قادة دول الخليج العربي، ساهم في منع سقوط عاصمة عربية أخرى في قبضة النفوذ الإيراني، رغم أن تصريحات قادة إيران تؤكد أن نظام الولي الفقيه في طهران لم يفقد الأمل بشكل نهائي بعد في إمكانية إعادة الكرة، سعياً للسيطرة على المنامة.
أما في سوريا فقد بدأ المد الشيعي بالتنامي بشكل سافر عقب وراثة بشار الأسد نظام الحكم بعد وفاة أبيه حافظ الأسد في العام 2000، حيث زادت أعداد الحوزات الشيعية في دمشق وحدها أضعاف ما كانت عليه، وتحول محيط مقام “السيدة زينب” في ريف دمشق إلى محميات إيرانية تقدم لها وزارة الإدارة المحلية تسهيلات لا متناهية، وظهرت مستشفيات ومراكز خدمة اجتماعية ودعوية تحمل أسماء قادة إيرانيين دينيين شيعة، في بلد لا يسمح فيه نظام الحكم بإبراز اسم أي قائد وطني سوري، حيث احتكرت أسماء “آل الأسد” تسميات المستشفيات والملاعب والمدارس والمطارات والساحات والشوارع وكل شيء، كما سمح نظام الحكم بإنشاء أول كلية دينية شيعية في محافظة الرقة، وبدأ النشاط الدعوي الشيعي يظهر بشكل علني واحتفالي استفز رجال الدين في سوريا، فوجهوا برقية إلى بشار الأسد يعبرون فيها عن قلقهم من خطورة هذا التمدد الشيعي في مجتمع “سني محافظ”، تعامل معها الأسد بتجاهل تام.
ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية في آذار/مارس من العام 2011، ظهر جلياً أن اصطفاف الشيعة السوريين كان محسوماً، حيث شارك مدنيون شيعة وبكثافة في قمع الثورة إلى جانب قوات أمن نظام الأسد ومليشيا “الشبيحة”، ولم يتأخر هذا الاصطفاف أبداً، فقد شاهدت بأم عيني ومعي جموع الثوار في مدينة حمص مشاركة عشرات الشباب المسلحين من شيعة أحياء “البياضة” و”العباسية” و”وادي إيران”، في قمع مظاهرات الثورة، ابتداء من مظاهرات ثاني جمعة في الثورة في 25 آذار/مارس 2011.
ومع وصول الثوار السوريين إلى قلب العاصمة دمشق في صيف العام 2012، قرر نظام الولي الفقيه الانتقال من مرحلة دعم الأسد بالخبرات والمستشارين والسلاح والمال والوقود، إلى مرحلة تقديم الدعم المباشر لنظام الأسد الذي كان آنذاك على وشك السقوط تحت ضربات الثوار، وبدأت طلائع عناصر مليشيا “حزب الله” الإرهابي في دخول العاصمة دمشق، والانخراط في عمليات عسكرية ضد الثوار.
كما بدأت إيران في إرسال أفواج المليشيات الشيعية العراقية على غرار فصائل “أبو الفضل العباس”، و”النجباء”، لتضيف إليهم مجموعات من المقاتلين المرتزقة الأفغان والباكستانيين الشيعة “فاطميون” و “زينبيون”، كما عملت على تأسيس مليشيا “حزب الله السوري”، ومليشيا “الإمام الرضا” من مقاتلين شيعة سوريين، وعملت منذ بداية العام 2015 على تعزيز قدرات وعمليات هذه المليشيات الشيعية بقوات إيرانية خاصة من الحرس الثوري والباسيج، بقيادة ضباط كبار من العسكريين الإيرانيين ذوي الخبرة العسكرية الكبيرة، ليصل عدد هؤلاء المقاتلين الشيعة في سوريا إلى ما يقارب الخمسين ألف مقاتل وفق تقديرات استخباراتية أميركية وأوربية.
ومع ازدياد نفوذ القيادات العسكرية الشيعية التابعة لإيران على القرار العسكري للنظام الحاكم في دمشق، وهيمنة المسؤولين الإيرانيين على إدارة الملف الاقتصادي والمالي لحكومة الأسد، صار السوريون يرون أن إيران أحكمت سيطرتها على دمشق، العاصمة العربية الرابعة، وصارت ممارسة طقوس المذهب الشيعي في شوارع دمشق وساحاتها وحتى جامعها الأموي تعكس عمق هذه الهيمنة التي لا تخطئها عين.
أما خسارة الثوار لمدينة حلب، فصحيح أن ألمها الكبير يكمن في المجازر التي ارتكبت بحق أهلها وتهجيرهم عنها، إلا أن ما حصل ينطوي على فجيعة أخرى لا تقل ألماً، ألا وهو إحلال سكان بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين بدلاً من الحلبيين، وسقوط المدينة التي لا تقل أهمية عن أي عاصمة عربية تحت سيطرة المليشيات الشيعية والقوات الإيرانية.
ولكن .. ماذا عن دور أمريكا في هذا التمدد الإيراني في المنطقة؟ ولماذا غضت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما الطرف بشكل تام عن تصاعد نفوذ المليشيات الشيعية المدعومة من طهران، وسكتت، بل دعمت أدوارها التخريبية غير المخفية في بلدان عربية مهمة لتوازن الاستقرار في المنطقة؟
كان على القادة العرب أن يجيبوا على هذه الأسئلة المهمة، بدل أن ينتظروا بعجز لا مثيل له مصيراً لمدينة الموصل العراقية وأهلها ليس أقل سوءا من مصير حلب وأهلها.
نبوءة هيمنة إيران على المنطقة لم تكن تهويلات فارغة إذن، و”الهلال الشيعي” الإيراني اكتمل، ورغم ذلك يقف قادة العرب متفرجين، حتى من يدرك منهم هذا الخطر يندد به على استحياء، ولا يفعل شيئاً لتلافي مخاطر بقية أجزاء المشروع الإيراني بتحويل الهلال إلى بدر مكتمل، وآنذاك.. لن يحفظ التاريخ سطراً واحداً من مطولات التنديد والاستنكار، ولن ينفع الندم.
عذراً التعليقات مغلقة