بعد أكثر من أربع سنوات من سيطرة فصائل المعارضة السورية على الجزء الشرقي من مدينة حلب، تمكنت قوات النظام السوري والميليشيات الطائفية الأجنبية المتحالفة معها، وبغطاء جوي روسي كثيف، من تحقيق تقدم سريع ضد تلك الفصائل، أدت في نهاية المطاف إلى إجلاء مقاتليها والمدنيين عن آخر الجيوب التي تحصنت بها في المدينة. وبعد ذلك مباشرة، دعت روسيا إلى عقد اجتماع في موسكو ضمّ وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، وخرج الاجتماع، حسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بـ “إعلان موسكو” الذي تضمّن خارطة طريقٍ لحلّ الأزمة السورية.
أسباب الانهيار في حلب
حاولت فصائل المعارضة السورية مرتين فكّ الحصار الذي فرضته قوات النظام السوري وحلفاؤها على الأحياء الشرقية من مدينة حلب منذ أن تمكنت هذه الأخيرة في تموز/ يوليو الماضي من إغلاق معبر “الكاستيلو”، وهو طريق الإمداد الوحيد لها. وعلى الرغم من تمكنها في المرة الأولى، في آب/ أغسطس، من كسر الحصار ومحاصرة قوات النظام داخل المدينة، فإن التدخل الجوي الروسي كان يدفعها في كل مرة إلى التقهقر[1].
وبعد فشل وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بين وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في التاسع من أيلول/ سبتمبر الماضي، دعا الأخير إلى اجتماع في موسكو في 28 تشرين الأول/ أكتوبر ضم إضافة إليه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم، والإيراني جواد ظريف، ومسؤولين عسكريين يمثلون الحلفاء الثلاثة. وقد وضع المؤتمرون خطةً للإجهاز على حلب، وبدأ تنفيذها مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي أسفرت عن فوز دونالد ترامب. وأدت الحملة التي أدارتها روسيا إلى انهيار سريع في صفوف المعارضة السورية. وتعود أسباب هذا الانهيار إلى جملة من العوامل أهمها:
- القوة النارية الهائلة التي استخدمتها روسيا لضرب المعارضة، إذ قامت روسيا خلال الشهرين الماضيين بتعزيز قواتها العسكرية بشكل كبير في سورية. وفضلًا عن إرسال مزيد من طائراتها القاذفة، أرسلت موسكو أسطول الشمال إلى السواحل السورية الذي يضم عشرات السفن الحربية، وفي مقدمه حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا وهي الأميرال كوزينتسوف التي قامت بقصف مناطق في حلب بصواريخ كروز من البحر الأبيض المتوسط.
- اتباع النظام وحلفائه إستراتيجية “الجوع أو الركوع”، في مواجهة نحو 300 ألف مدني أطبق عليهم الحصار في القسم الشرقي من المدينة، ودفع فصائل المعارضة نتيجة لذلك إلى التفاوض على الخروج منها كما حصل في حمص عام 2014.
- الخلافات والانقسامات بين فصائل المعارضة التي استمرت، على الرغم من الهجوم الكبير الذي تعرضت له حلب، وتمثل بصورة خاصة في القتال الذي دار بين حركة “نور الدين زنكي” من جهة وتجمع “فاستقم” من جهة أخرى، وكذلك بين جبهة فتح الشام “النصرة سابقًا”، وكل من “فيلق الشام” و”جيش الإسلام” من جهة أخرى. وقد انعكس ذلك بوضوح على الأوضاع الميدانية لقوات المعارضة. في المقابل، بدت جبهة النظام التي تضم أيضًا الروس والإيرانيين والميلشيات التابعة موحدةً ومتناغمةً، على الأقل حتى تم الإعلان عن الاتفاق التركي – الروسي لإجلاء المقاتلين والمدنيين من حلب.
- انشغال جزء من فصائل المعارضة في معركة “درع الفرات” التي أطلقتها تركيا في آب/ أغسطس الماضي لإخراج تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من مناطق غرب الفرات، ومن ثمّ تفويت الفرصة على وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أميركيًا من وراثة تنظيم الدولة في معقله الرئيس في مدينة الباب ومحيطها، كما حصل في منبج من قبل.
- ضعف الموقف الأميركي وموقف حلفاء المعارضة عمومًا، وحصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما يشبه الغطاء لإطلاق معركة استعادة حلب بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية وإعرابه عن رغبته في دخول شراكة مع روسيا في سورية للقضاء على تنظيم الدولة. وكان لافتًا أن استئناف الغارات الروسية واستخدام الأسطول الروسي الجاثم في البحر المتوسط في قصف حلب جاء بعد اتصال بوتين بترامب لتهنئته بالفوز، وإعلان الكرملين أن الحديث بين الطرفين تناول محاربة الإرهاب والمتطرفين في سورية.
- تحول الموقف التركي من طرفٍ في الصراع وداعمٍ للمعارضة إلى وسيطٍ بينها وبين روسيا، وقد قامت تركيا خلال عملية السيطرة على حلب باستضافة مفاوضات بين روسيا وفصائل المعارضة الموجودة شرق حلب للتوصل إلى اتفاق يؤدي إلى خروج الأخيرة من المدينة، وهو مطلب روسيا. وكان التحول في الموقف التركي اتجاه تطبيع العلاقات مع روسيا بدأ منذ إطاحة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو في أيار/ مايو الماضي، لكنه تسارع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو، وقد رافق ذلك تغيير في الموقف التركي باتجاه التحول نحو دور الوساطة في الصراع السوري. وكان من الواضح أن روسيا لم تعلق على العملية التركية مع المعارضة السورية لمنع تغلغل القوات الكردية في ريف حلب الشمالي الشرقي، كما أن تركيا لم تقم بأي فعل لمعارضة العملية الثلاثية التي قادتها روسيا للاستيلاء على حلب.
الاتفاق التركي – الروسي والموقف الإيراني
مع اشتداد الضغط العسكري على المعارضة واستهداف المدنيين بالقصف العنيف، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق سكان الأحياء التي سيطر عليها حلفاء النظام من الميلشيات الأجنبية، وفي ظل رفض المقاتلين الاستسلام، تعالت المواقف الدولية المنددة بما تتعرض له مدينة حلب، التي تعد واحدة من أقدم الحواضر الإنسانية، من عنف دموي. ومع تنامي المخاوف من احتمال وقوع مجازر على نمط سبرينيتسا (البوسنية)، وافق الروس على مقترح تركي بتوفير معابر آمنة تسمح بخروج قوات المعارضة ومن يرغب في الخروج من المدنيين من الأحياء المحاصرة للمدنية.
فاجأ الاتفاق طهران التي ساءها تجاهل الروس دورها، فقامت بتعطيل تنفيذه عن طريق أذرعها على الأرض، وخاصة عبر ميليشيا حزب الله اللبناني والنجباء العراقية، من خلال احتجاز الخارجين من المدينة وإعادة آخرين بعد خروجهم منها. كانت إيران، ويؤيدها النظام السوري في ذلك، تسعى إلى القضاء على جميع فصائل المعارضة المحاصرين في المدينة، بدلًا من تركهم يخرجون لاستئناف القتال ضدها في مناطق أخرى، رافضة التمييز بين معتدلين ومتشددين، باعتبار أن كل من رفع السلاح في وجه النظام يعد إرهابيًا[2]. وفي محاولة لعرقلة الاتفاق، اشترطت إيران للسماح بخروج المقاتلين والمدنيين من شرقي حلب، خروج الموالين لها من بلدتين في ريف إدلب هما كفريا والفوعة يحاصرهما جيش الفتح التابع للمعارضة السورية منذ استيلائه على مدينة إدلب في ربيع 2015. وبناءً عليه، بدأت عمليات الإجلاء المتبادلة التي دخل على خط تنفيذها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من خلال مشروع قرار فرنسي يدعو إلى إرسال مراقبين دوليين لضمان حسن سير الخارجين من حلب وسلامتهم، وهو المشروع الذي اعترضت عليه روسيا قبل أن تعود وتوافق عليه بعد إدخال تعديلات عليه، وحمل رقم 2328 بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وهو القرار الذي انتقدته إيران بشدة على لسان أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، معتبرًا أنه جاء لـ “مصلحة الأعمال التخريبية ويوفر الأرضية لدخول العناصر الأمنية والعسكرية الداعمة للإرهاب تحت غطاء المراقبين الدوليين”[3].
إعلان موسكو
سارعت موسكو إلى الاستثمار سياسيًا في التغييرات الميدانية التي قادتها على الساحة السورية وتمثلت بسقوط حلب في يدها، وكذلك في الغياب الكامل للولايات المتحدة عن المشهد الإقليمي نتيجة الحالة الانتقالية التي تعيشها بين إدارتين، فدعت إلى اجتماع سداسي يضم وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، ولم تعطله حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة عشية انعقاده.
ناقش المجتمعون مصير سورية والحل السياسي فيها بغياب النظام الذي يدّعي تمثيلها، وخرجوا ببيان أطلقوا عليه اسم “إعلان موسكو” يتضمّن، كما قال لافروف، خارطة الحل السياسي في سورية، ويشمل توسيع وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في حلب ليشمل الأراضي السورية كافة وجميع الأطراف، باستثناء جبهة فتح الشام “النصرة” وتنظيم الدولة. والتركيز على محاربة الإرهاب، والدفع باتجاه تسوية سياسية بين النظام والمعارضة تكون روسيا وتركيا وإيران الأطراف الضامنة لتنفيذها. وقد نص البيان الذي جرى نشر مضمونه على عدم “وجود حل عسكري للأزمة في سورية”، وكان لافتًا إشارته إلى ضرورة الاعتداد “بالقرارات التي صدرت عن المجموعة الدولية لدعم سورية وإزالة العوائق أمام تطبيق الاتفاقات الواردة فيها مثل قرار مجلس الأمن 2254. وتتجه موسكو إلى توزيع الاتفاق الثلاثي على مجلس الأمن وتضمينه خطوات محددة لتسوية العقبات التي تعرقل التوصل إلى وقف شامل للأعمال القتالية واستئناف عملية التسوية السياسية.
وعلى الرغم من محاولات المضيفين الروس إضفاء أجواء توافقية على اجتماعات موسكو، برزت تناقضات مهمة في مواقف الطرفين التركي والإيراني. فبينما قال وزير الخارجية الروسي إن الأطراف الثلاثة اتفقت على ضرورة اتخاذ إجراءات عملية لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 لجهة مطالبته بوقف وصول المساعدات الخارجية للجماعات الإرهابية، وهو الأمر الذي أكد الوزير التركي الاتفاق بشأنه مع إشارته إلى أن “ثمة جماعات أخرى مرتبطة بالنظام السوري ومن الضروري قطع الدعم عنها أيضًا”، وبينها حزب الله، معتبرًا ذلك “ضروريًا لضمان وقف إطلاق نار مستقر”. لكن وزير الخارجية الإيراني ردّ عليه بأن الحديث في الاتفاق الثلاثي الذي جرى التوصل إليه في موسكو “يدور عن الفصائل المصنفة في قرارات مجلس الأمن منظمات إرهابية” (يقصد النصرة وتنظيم الدولة فقط).[4]
أما في اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث، فقد أشاد وزير الدفاع الإيراني بالتنسيق الروسي – الإيراني الذي تبدت نتائجه في حلب، ما مثّل تناقضًا واضحًا مع نص البيان الذي أقر بعدم وجود حل عسكري للصراع في سورية.
خاتمة
على الرغم من أجواء التفاؤل التي حاولت أن تبثها موسكو من خلال الإعلان عن خارطة الطريق لحل الأزمة السورية، والتي تحاول عبرها ترجمة تدخلها العسكري إلى نفوذ دبلوماسي لتأدية دور راعية عملية سلام بوصفها دولة عظمى، ما زالت العقبات التي تعترض التوصل إلى الحل المنشود غير متوافرة، بدليل وجود خلافات كبيرة بين أطراف الاتفاق الثلاثي نفسها. فالأسباب التي حالت دون تطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة (خاصة القرارين 2118 و2254) والعقبات التي أدت إلى فشل مفاوضات جنيف 2 و3 ما زالت قائمة. كما أن أسئلة كبرى بحاجة إلى إجابات عنها، مثل: كيف يمكن إنهاء الصراع إذا ظلت روسيا وإيران مصرتين على بقاء الأسد بعد كل ما جرى؟ وكيف يمكن الحديث عن حل في غياب دور عربي؟ وماذا سيكون عليه الموقف الأميركي الذي بدا معزولًا في ظل أخذ الدول الإقليمية الفاعلة في الصراع السوري زمام المبادرة بعيدًا منه؟ وماذا سيكون موقف فصائل المعارضة المسلحة من طروحات الحل التي تركز على قضية الإرهاب وتتناسى الأسباب التي أدت بالشعب السوري إلى الثورة والخروج على النظام؟
في ظل غياب إجابات حقيقية عن بعض هذه الأسئلة أو كلها، يصعب الحديث عن التوصل إلى حل قريب للصراع في سورية؛ ما يعني أن الصراع سيستمر لفترة أطول ريثما تتوافر عوامل إنهائه بحدها الأدنى. إن الدول الثلاث المذكورة قادرة على التوصل إلى وقف إطلاق النار، وتوسيع نطاقه ليشمل مناطق أكبر، كما أن دور الوسيط يغري روسيا باتخاذ مسافة ولو قصيرة من الإيرانيين، بعد مرحلة من التحالف الكامل والتطابق في المواقف. ففي النهاية، تريد روسيا أيضًا التوصل إلى حل ما في سورية، ولا يمكنها مواصلة القتال إلى الأبد. ولكنّ قوى المعارضة السورية المسلحة وحلفاءها غير قادرين على التأثير وفرض عناصر الحل العادل بحدها الأدنى على من يريد التقدّم نحو الحل. فهذه المهمة تتطلب قدرة على وضع الإستراتيجيات الموحدة والالتزام بها، وإقناع العالم والشعب السوري ليس فقط بطغيان نظام الأسد ووحشيته، بل أيضًا بوجود بديل قادر على إدارة البلد والحفاظ على وحدته وأمنه، ولم تقدم الفصائل المسلحة حتى الآن نموذجًا ناجحًا لهذا الغرض.
عذراً التعليقات مغلقة