* عمر إدلبي
شكّل الانهيار السريع لكتائب الجيش الحر والفصائل الإسلامية التي كانت تسيطر على الأحياء الشرقية المحررة من مدينة حلب صدمة مدوية فاجأت الكثيرين من الثوار وحاضنتهم الشعبية، لكنها لم تكن مستبعدة ممن يعرف واقع حال القوى الثورية ومجموعات المقاتلين التي رابطت على جبهات المدينة طيلة 4 سنوات مضت.
وقد تفيد العودة إلى الوراء قليلاً لإيضاح ما جرى، ففي أوائل شهر تموز/ يوليو من العام الجاري أحكمت قوات الأسد والمليشيات الشيعية متعددة الجنسيات المدعومة من إيران حصارها على المناطق المحررة بعد سيطرتها على طريق الكاستيلو، الطريق الوحيد للإمداد العسكري والمدني لمناطق سيطرة الثوار والفصائل الإسلامية، مستفيدة من إسناد جوي مكثف من الطيران الروسي، ومشاركة فاعلة ومؤثرة من المليشيات الكردية التي نفذت عملية عسكرية ضد الثوار انطلاقا من حي الشيخ مقصود، ما أوقع الثوار بين فكي كماشة وأجبروا على الانسحاب بعيداً عن “الكاستيلو” بعد معارك استمرت شهرين.
ورغم النجاح اللافت الذي حققه الثوار والفصائل الإسلامية في عملية فك الحصار المسماة “ملحمة حلب الكبرى” في بداية شهر آب/ أغسطس وتمكنهم من فتح طريق إمداد انطلاقاً من الجبهة الجنوبية الغربية، إلا أنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على هذه المكاسب طويلاً، وتمكنت قوات الأسد والمليشيات الطائفية المساندة لها من إحكام الحصار مجدداً في مطلع شهر أيلول/سبتمبر.
وفشلت محاولتان لاحقتان من قبل الفصائل لفك الحصار، لتبدأ بعدها معركة حاسمة وحشية شنتها قوات الأسد والمليشيات بدعم جوي روسي مكثف، تميزت بنهج تدميري غير مسبوق واستهداف همجي للمدنيين والبنى التحتية من مدارس ومستشفيات وأسواق على نحو لم يشهد له الصراع مثيلاً من قبل، كما تميزت هذه المعركة بزج القوات المهاجمة أعداداً كبيرة من العناصر الأجنبية العراقية والأفغانية ومن مليشيا حزب الله الإرهابي، واستمرت المعركة شهرين لم توقفها الخسارات الكبيرة التي منيت بها القوات المهاجمة، وانتهت بسقوط حلب.
ولأن خسارة الثورة مدينة حلب، أحد أبرز معاقلها، بهذا الشكل المكلف على كل صعيد، قد يكون مرشحاً للتكرار في مواقع أخرى محررة، وهي باتت قليلة للأسف، فإن التعامل مع هذه الخسارة على أنها “كر وفر” والاستسلام للوقائع والمسببات وترديد نفس العبارات التعبوية الفارغة التي سمعناها في حالات مشابهة، يوم سقطت القصير وأحياء حمص القديمة وداريا وخان الشيح، وغيرها، لن يكون إلا مقدمة لخسارات لاحقة ربما تكون مؤلمة وقريبة أكثر مما يتوقع أصحاب هذه التبريرات.
ولتفادي وقوع المحظور مجدداً، لا بد من الإجابة عن السؤال السهل الممتنع، المؤلم جداً: لماذا سقطت حلب؟ والإجابة لن تكون جامعة مانعة مهما اجتهدنا، ولكن مقاربة متفحصة قد تساعد في تبيان هذه الأسباب:
يعود أبرز الأسباب إلى انعدام الغطاء الدولي وعدم وجود طرف دولي قادر على لجم الرغبة الروسية والإيرانية الجامحة لتحقيق نصر عسكري يغير موازين القوى في مرحلة ضعف الإدارة الأمريكية الحالية التي تستعد لتسليم مهامها لإدارة الرئيس المنتخب ترمب.
كما تلقت الثورة السورية ضربة مؤثرة جراء الانعطافة التركية الحادة باتجاه إبرام تفاهمات مع الروس بدت كما لو أنها مقايضة اضطرارية تخلى بموجبها الأتراك عن دعم بقاء الثوار في حلب، مقابل غض روسيا الطرف عن عملية “درع الفرات”. وفي ظل تراجع الدور الأمريكي وتسليمه بنفوذ روسي مطلق على الملف السوري لم تكن الدول العربية الداعمة للثورة جريئة بما يكفي للقيام بخطوات استفزازية لروسيا لا تحظى بدعم وغطاء أمريكي.
أما الأسباب المتعلقة بأوضاع المعارضة وقوى الثورة السورية فإنها أكثر من أن تحصى، ويأتي في طليعتها حالة الفصائلية المقيتة التي شتت جهود وقدرات الفصائل المقاتلة، ليس هذا فحسب، بل زاد الطين بلة وقوع حوادث أمنية وصراع بينيّ فصائلي، كانت الأخطر بينها هجوم فصائل “الزنكي” و”أبو عمارة” مدعومة بموقف منحاز من “جبهة فتح الشام” على فصيل “تجمع فاستقم كما أمرت” التابع للجيش الحر، والسيطرة على مستودعات سلاح وذخائر عائدة للتجمع، في أخطر ضربة موجعة للتنسيق العسكري الهش أصلاً بين هذه الفصائل مجتمعة على جبهات المدينة.
هذا الاقتتال تسبب في انشغال المدافعين عن المدينة في وجه مليشيات الأسد وحلفائه بصراعهم، ما تسبب في ضعف واضح، زاد من خطورة الضعف الذي تسبب به خروج عدد كبير من مقاتلي الفصائل من جبهات الأحياء الشرقية في حلب إلى الريف الشمالي للمشاركة في عملية “درع الفرات” ضد تنظيم الدولة والمليشيات الكردية بضغط من الجانب التركي.
وفي الجانب العسكري، ظهر جلياً غياب التخطيط العسكري المحكم لإدارة المعركة، فجبهات الأحياء الشرقية لم تكن محصنة هندسياً بما يكفي لصد أو حتى إعاقة هجوم شرس لا يعبأ المهاجمون فيه بخسائرهم البشرية، بعد أن تمكنت قوات الأسد والمليشيات الشيعية من استقدام تعزيزات كبيرة، لم تواجه أرتالها أي مقاومة في طريقها إلى حلب عبر طريق “أثريا- خناصر” قادمة من حماة ومدن الساحل، في ظل انشغال فصائل ريف حماة وإدلب بصراعات دامية خاضتها ضد فصيل “جند الأقصى” المقرب من تنظيم الدولة “داعش”.
ومع انكسار خط الدفاع الأول في جبهة هنانو تداعت خطوط الدفاع التالية كأحجار الدومينو، ورغم المقاومة الشجاعة التي أبداها المقاتلون على مختلف الجبهات في الأسبوع الأول من الهجوم، إلا أن الثوار فقدوا زمام المبادرة تماماً مع تسارع الهجوم، وظهرت حالة مفجعة من التخبط حالت دون قيام المدافعين عن المدينة بإعادة انتشار وتحصين ناجحين، وبدا أنهم تأثروا كثيراً بالخسارات البشرية الفادحة وحالة الهلع التي أصابت المدنيين جراء المجازر البشعة اليومية، وكثرة الإصابات في ظل انعدام طرق آمنة لإخلاء المصابين وخسارة كل النقاط الطبية بفعل التدمير الهمجي الروسي المتعمد للمشافي الميدانية ومراكز الدفاع المدني.
التضحيات التي تكبدها المدنيون يتقاسم المسؤولية عنها نظام الإجرام الأسدي وحلفاؤه أولاً وثانياً و..، وهؤلاء القادة “قادة الفصائل ومعهم قادة المعارضة السياسية” أيضاً
ولأن الخسارة مفجعة، لا نستطيع القفز على ضرورة مساءلة قيادات الفصائل عن غياب تقديرهم للموقف العسكري وخططهم للمعركة، ومساءلتهم أيضاً ومعهم قادة المعارضة عن تقديرهم واستيعابهم للمواقف الدولية، خاصة بعد التغييرات الكبيرة التي طرأت على موقف تركيا من الملف السوري، وإعلانها صراحة مرات ومرات أنها صارت أكثر قرباً من التصورات الروسية للصراع وللحل في سوريا.
والسؤال الكبير الذي يجب أن يجيب عليه قادة الفصائل ومعهم قادة المعارضة السياسية: على ماذا بنيتم قراركم في رفض عرضي الانسحاب الذين قدمهما الروس في شهري تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر، وما هي المعطيات التي بنيتم عليها إصراركم على خوض المعركة؟
وسواء كان قرار المضي في المواجهة جاء رغم الوعي بمخاطره وكلفته العالية على المدنيين والمقاتلين ونتيجته المحسومة المؤسفة، أو جاء نتيجة سوء تقديرات هؤلاء القادة، فالأمر يحتاج وقفة شجاعة من القادة يبررون فيها لشعبهم أسباب ما حصل، والاعتراف بفشلهم، وإعلان تحمل المسؤولية دون مواربة.. فالتضحيات التي تكبدها المدنيون يتقاسم المسؤولية عنها نظام الإجرام الأسدي وحلفاؤه أولاً وثانياً وثالثاً و..، وهؤلاء القادة أيضاً، وعليهم واجب الاعتراف بها، وإلا.. فلا عتب ولا لوم على الحاضنة الشعبية التي وصلت إلى مرحلة خطرة للغاية من فقدان الثقة بهم، وبوعيهم وقدراتهم على إدارة صراع الشعب السوري الثائر في مرحلة من أخطر مراحل الثورة، بل من أخطر مراحل تاريخ الشعب السوري.
عذراً التعليقات مغلقة