كما لو أنها أسطورة من زمن الإغريق، حمل السوري طيلة سبعة عقود صخرة حلم “الوطن السوري” واتجه صعوداً نحو جبل قاسيون، ولما يصل حتى الآن.
في الأسطورة اليونانية يتعثر سيزيف كلما أوشك على الوصول بصخرته إلى قمة التل، ويهوي وصخرته إلى الوادي، ويعاود الصعود دافعاً صخرته أمامه فيهوي مجدداً، في عذاب أبدي عاقبته به الآلهة على جشعه وطمعه الدنيوي، فيما يقول مفسرون آخرون إن هذا الامتحان جاء عقاباً على طموحات سيزيف السياسية وتطلعه للسلطة.
ويبدو أن التحدي السيزيفي نال إعجاب بعض المؤرخين والأدباء ممن تخيل أو فسر إصرار سيزيف على النجاح في هذا الامتحان بأنه كفاح طموح، لا بد وأن يُدخل السرور إلى قلب من يصارع المستحيل رغم المتاعب الجمة التي يواجهها، وهذا ما ذهب إليه الأديب والفيلسوف الوجودي ألبير كامو، حيث أقر كامو أن سيزيف يجسد عبثية الحياة الإنسانية، لكنه يعتقد في المقابل أن سيزيف سعيد مسرور في كفاحه وصراعه من أجل بلوغ القمة!
على نحو مماثل إلى حد ما يعتقد البعض أن صراع السوريين من أجل الوصول إلى “وطن” وبلوغ قمم المجد لهم ولوطنهم هو عبث لا طائل منه، وعقاب على أحلام دونها صعوبات ومخاطر ما دام المستحيل خصمهم، في حين يعتقد آخرون أن هذا التحدي فرصة لتتعرف الذات على مكامن قوتها وإثبات جدارتها في الوجود، وأن تفاصيل المهمة وإغراءات الحلم تستحق محاولات، لا مجرد محاولة واحدة.
فالكفاح والسعي من أجل هدف كبير ممتع ويدخل السعادة على قلب من يسعى، تماماً كما للطريق نحو لقاء جميل جماليات لا تقل عن جمال اللقاء نفسه.
أما ما يراه السوريون من أمر كفاحهم المرير الطويل لبناء حلمهم “وطنهم” فهو يتجسد في ملحمة ثورتهم التي ما زالت شعلتها متقدة بإصرارهم رغم مخاضها العسير الدامي المستمر منذ أكثر من خمس سنوات.
بدايات ظهور الحلم السوري انطلقت يوم نال السوريون استقلالهم وخرجوا من وصاية الانتداب الفرنسي في منتصف القرن الماضي بعد صراع وتضحيات كان هدفها الثابت “حرية سوريا واستقلالها”، وأهدافها الأخرى – الثابتة أيضاً – قومية الطابع عروبية التوجه، وفي صلبها هدف تحرير فلسطين من المحتلين الصهاينة.
ولم يكن أشد المتشائمين يتخيل أن الوطن السوري الوليد سيدفع ضريبة موقعه الجيوسياسي من حريات أبنائه وازدهاره، وسيتكبد السوريون ثمناً باهظاً لتطلعاتهم النبيلة نحو “وطن سوري حر مستقل”، ووطن لشعب فلسطين لا يسلب الصهاينة منه شيئاً.
لكن الوقائع كانت تثبت دائماً وطيلة سبعين عاماً وصولاً إلى أيامنا هذه أن طموح السوريين هذا ممنوع تحقيقه، وأن “الزمن الصهيوني” لا يحرس استمراره جيش وأسلحة الصهاينة فقط، فالحراس كثر، وفي مقدمتهم أنظمة حكم تعاقبت على السلطة في محيط فلسطين العربي، وفي طليعة هؤلاء الحراس كان نظام الأسد، في عهد الأب أولاً ومن ثم الابن الوريث بشار.
منذ انطلاقة التاريخ السوري الحديث مع تأسيس الدولة السورية المستقلة من الاستعمار الأوروبي بدت ملامح “التيه السوري” مرافقة لرحلة السوريين نحو هدفهم “الوطن”، فالتطور الطبيعي للحياة السياسية الديمقراطية واجهته ارتدادات نكبة فلسطين وآثارها العميقة. كما جرى اعتراضه مبكراً بعنف التدخل السافر للعسكر في شؤون السلطة.
وأفضى توالي أنظمة الحكم العسكرية أولاً، ووصول حافظ الأسد إلى السلطة ثانياً إلى هزيمة كل المشاريع الوطنية السورية الساعية إلى الحلم “الوطن السوري”، حتى تلك الحالمة بإلحاق هذه الوطن في فضاء “الأمة الإسلامية” أو “الأمة العربية”.
كل المشاريع هزمت، ووحده مشروع الطاغية ونظامه الاستبدادي كان يحقق انجازات متتالية، فيما كان المجتمع والوطن السوري يخسران باضطراد كل ما يمكن الارتكاز عليه من موارد وأسس للبقاء، ولا سيما على صعيد بناء الإنسان، حيث لا مكان في دولة البعث إلا لمواطن يؤمن بمقولة “لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم”.
وتلك ليست تحليلات، فهذه العبارة كانت تنتشر في شوارع المدن السورية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي مكتوبة على “بوسترات” يلصقها عناصر الأمن في أماكن بارزة لتكون التحذير الأول والأخير للمواطن السوري قبل أن يعتقل أو يقتل إن خالف مضمونها.
وكما استهلكت المشاريع الوطنية السورية قوة تأثيرها وفعلها جراء مواجهة غير متكافئة مع نظام حكم الأسد، الذي صادر الدولة السورية وصارت أجهزة قمعه وبطشه هي التعبير الأوضح لمؤسسات الدولة وواجهتها، كذلك استهلك النظام الاستبدادي قوة تضليله للمجتمع السوري، وفقد قدرته على إيهام الناس بأنه صاحب مشروع للوطن، بل فقد حتى الحيلة اللازمة لاستمرار تثبيت أطروحته بمواجهة العدو الصهيوني ومقاومته في أذهان السوريين، وبات في نظر معظمهم نظاماً لا هدف له سوى البقاء في الحكم مهما كان ثمن خسارات الوطن والمواطن.
هذا الهدف الأعلى لنظام الأسد تجلى في شعارات تعبوية واجه بها الثوار منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة في آذار من العام 2011، من قبيل “الأسد أو نحرق البلد”، ومع مرور أيام الثورة تأكد للجميع أن هذه العبارات والتهديدات ليست مجرد شعارات، بل هي خطة عمل تنفذ بلا هوادة، بدأت ملامح نتائجها تظهر مع تدمير حي “باباعمرو” في حمص، في أولى محاولات قوات الأسد ومليشيات شبيحته لقسم ظهر الثورة وشعبها حفاظاً على بقاء الأسد.
وتأكد الواهمون إلا من يطيب لهم الوهم راغبين أو مكرهين، أن مشروع “الوطن السوري” لدى نظام الأسد لا معنى آخر له إلا في استدامة بقاء الأسد حاكماً ومتصرفاً في مصير السوريين بقتلهم إن تعذر ذلك وهم أحياء.
سقطت أقنعة نظام الأسد الوطنية والقومية في اختبار مواجهة مطالب الثوار بنهضة الوطن السوري وإنجاز خطوة بناء دولة الحريات والقانون، وصارت خطوات النظام تتالى في التفريط بثوابت بنى عليها أركان شرعيته عبر أطروحته في السيادة الوطنية ومقاومة العدو الصهيوني والتضامن العربي، وبدأت تتضح أكثر ملامح انخراطه التام في مشروع نظام الولي الفقيه في طهران بالهيمنة على المنطقة.
وظهر جلياً أن ضمانة عدم انهيار نظام الأسد أمام ثورة السوريين هي مشروعان معاديان لأطروحة النظام التي منحته شرعية حكم السوريين طيلة عقود، وهما المشروع الصهيوني والمشروع الإيراني، فقادة تل أبيب عارضوا بشدة كل خطوة دولية أوعربية للإطاحة بالأسد، بذريعة الخوف من قيادة سورية جديدة تتبنى مستقبلاً سياسات تنسجم مع مزاج السوريين الرافض مهادنة الصهاينة، في الوقت الذي ذهبت إيران في دعمها الأسد إلى حد دخول الحرب بكل طاقاتها ضد الثوار ومشروعهم.
وإذا كانت تحالفات نظام الأسد المعلنة مع إيران وروسيا والضمنية مع العدو الصهيوني منحته القدرة على تأخير إنجاز الثورة السورية هدفها في بناء “الوطن السوري”، وأدخلت خطوات الثوار نحو هذا الهدف تيهاً واسعاً، فإن الثورة وقواها الشبابية والسياسية والعسكرية ساهمت من جهتها في تعميق أزمتها في هذا التيه الطويل.
ولم تكن الثورة بريئة من ضلال توجهاتها وضياعها في العديد من الخطوات الخاطئة، وإدراك هذه الأخطاء من قبل قواها وتشخيص أسبابها، ووضع التصورات لتجاوزها استحقاق لا بد من التصدي له الآن ودون إبطاء للعودة مجدداً إلى طريق الحلم.
يتبع..
عذراً التعليقات مغلقة