
أحياناً تكشف لحظة عابرة أكثر مما تفعله عشرات الدراسات والمقالات. مشهد بسيط جرى أمامي في مطار سوري، قبل هروب الأسد، يمكن أن يكون مرآة مكبّرة لمجتمعٍ ينهشه الخوف والفساد حتى العظم. لا تحتاج أن تكون باحثاً في علم الاجتماع لتقرأ ما بين السطور: المواطن الذي يضع ورقة نقدية في حقيبته قبل التفتيش، والعنصر الأمني الذي يمد يده إليها ببرودٍ مكتسب، والجمهور الذي يلتزم الصمت خوفاً.
القصة تبدأ كما مئات القصص اليومية في هذا البلد المرهق. رجل أعمال معروف يمر من خط التفتيش اليدوي في مطار حلب. لا شيء استثنائياً، إلا أن الرجل يضع ورقة مالية من فئة 500 ليرة داخل حقيبته، في مكان واضح تماماً، لتقع عليها عين المفتش فور فتحها. لا كلمات ولا تفاوض، مجرد إشارة ضمنية، مفهومة بين الطرفين: “افتح الحقيبة، خذ الرشوة، واسمح لي بالمرور”. هذه ليست معاملة مالية، بل اتفاق صامت بين طرفين يعرف كل منهما دوره في المسرحية.
لكن المشهد هذه المرة لا يمر كما يجب. فهناك من كسر الإيقاع المألوف، فقد أمسكت بالحقيبة وسألت الرجل عما يودّ تمريره سلاحاً أم مخدرات؟ السؤال البسيط يتحول إلى استفزاز مباشر، إذ أن التاجر الذي اعتاد أن يُعامل كـ”مقام رفيع” لا يتقبل أن يسأله أحد من “العامة”. المفارقة أن عنصر الأمن نفسه، بدلاً من أداء واجبه، بدا أكثر اهتماماً بالورقة النقدية التي يستعد لإخفائها في جيبه.
عندها طلبت من العنصر أن يفتش الحقيبة جيداً، مهدداً بالتصعيد. وهنا يظهر وجه آخر من وجوه المجتمع، يتمثل بالوهم بالسلطة. فالعنصر والتاجر كليهما اعتقدا أن الرجل الذي يتحدث بهذه الثقة لا بد أن يكون شخصية مهمة. لذلك أُجري التفتيش على مضض، ليكتشفوا في النهاية أن لا ممنوعات في الحقيبة.
اقتربت من التاجر وسألته عن سبب دفعه للرشوة إن لم يكن يخفي شيئاً، فنظر إلي شذراً قائلاً إن “مقامه لا يسمح بتفتيشه”. الجملة وحدها تختصر نظاماً كاملاً، فنحن في بلد لا يُحاسب فيه أحد أصحاب الحظوة، بينما يُفتش المواطن العادي حتى على نواياه. أما البقية في القاعة فقد رمقوني بنظرات غيظٍ صامتة، لأنني أتدخّل فيما لا يعنيني. ففي نظرهم، الخطأ لم يكن في الرشوة ولا في العنصر المرتشي، بل فيمن تجرأ على كسر الصمت.
المشهد بكل تفاصيله ليس حادثة فردية، بل انعكاس لمنظومة كاملة كانت تحكمها ثقافة الخوف والفساد والإفساد. الخوف أولاً، لأن الناس يعرفون أن أي كلمة اعتراض قد تُكلفهم الكثير. والفساد لأنه أصبح وسيلة حياة لا مجرد استثناء. أما الإفساد فهو المرحلة الأخطر، حين يتحول الفساد من سلوكٍ منحرف إلى منظومة قيمية تبرره وتُطبع معه.
في مجتمعات كهذه، لا يعود المال هو المشكلة، بل الرمزية التي يحملها. الرشوة الصغيرة في المطار ليست مسألة 500 ليرة، بل تأكيد يومي على أن القانون لا يُطبّق إلا على الضعفاء. حين يمد أحدهم يده بالمال، فهو لا يشتري خدمة، بل يشتري اعترافاً ضمنياً بأنه فوق المحاسبة. في المقابل، العنصر الذي يقبل الرشوة لا يرى نفسه فاسداً، بل يعتبر الأمر “تعويضاً” عن راتب هزيل أو “مكافأة” غير رسمية. وهكذا يستمر النظام في الدوران: من يدفع يشعر أنه أذكى، ومن يأخذ يشعر أنه انتصر، ومن يشاهد يختار الصمت لأنه يخاف أو لأنه ببساطة اعتاد.
السكوت الشعبي هنا ليس ناتجاً فقط عن الخوف من السلطة، بل عن انكسار أعمق: انكسار الإيمان بالجدوى. كثيرون يعتقدون أن الاعتراض لا يغيّر شيئاً، وأن من يحاول التمسك بالمبدأ سيُعامل كالأحمق أو كالمشاغب. هذا الشعور بالعجز هو ما يُبقي الفساد متماسكاً. لأن أي نظام فاسد لا يقوم فقط على من ينهب، بل أيضاً على من يسكت.
المفارقة، أن أكثر ما يثير الغضب في هذه الحكاية ليس الرشوة بحد ذاتها، بل رد فعل الناس في صالة الإقلاع. النظرات الساخطة نحو من حاول فقط أن يُذكّر بأن هناك قانوناً وأخلاقاً، تكشف عن مرضٍ أعمق من الفساد: التطبيع معه. حين يُصبح رفض الفساد فعلاً غير مرغوب فيه، فهذا يعني أن المجتمع دخل مرحلة الخضوع الطوعي، حيث تتحول الأخلاق إلى عبء، والكرامة إلى ترف.
قد يظن البعض أن هذه القصص هامشية أمام مآسي الحروب والفقر، لكنها في الحقيقة جذورها. لأن الفساد الصغير هو ما يصنع الفساد الكبير. كل ورقة نقدية تمر خلسة بين يدين تُغذي منظومة كاملة من الإذلال. وكل مرة يسكت فيها الناس عن تجاوزٍ بسيط، يمدّون عمر هذا النظام الذي يحكم حياتهم.
إن ما يلفت في الرواية ليس شجاعة مدّعاة، بل الإشارة إلى الفساد ليس حدثاً، بل ثقافة. ثقافة تنشأ حين يخاف الناس من قول كلمة حق، وحين يختصر القانون في علاقة شخصية أو ورقة نقدية. في مثل هذه البيئات، لا يعود السؤال: “من هو الفاسد؟” بل “من لم يتورط بعد؟”.
النجاة من هذا المستنقع لا تكون بالشعارات، بل بإعادة تعريف الاحترام نفسه. أي أن يُحترم الإنسان لالتزامه بالقانون، لا لقدرته على تجاوزه. أن يُقدّر من يرفض الرشوة، لا من يجيد تمريرها. وأن يُفهم أن الكرامة ليست امتيازاً طبقياً، بل حق لكل من لا يمد يده ولا يخفض رأسه.
ربما كانت حادثة المطار مجرد مشهدٍ عابر في حياة رجلٍ عادي، لكنها في الواقع رواية مكثفة عن وطنٍ بأكمله. وطنٌ ما زال يعيش بين حقيبة تُفتش وورقة نقدية تُمرر، بين خوفٍ متوارث وصمتٍ اختياري. ومع ذلك، يبقى الأمل في أولئك الذين ما زالوا يجرؤون على أن يقولوا لا.
السؤال المؤلم الذي يطرح نفسه اليوم بعد سقوط الأسد، هل سيسقط معه هذا النمط من السلوك؟ هل سيختفي التاجر الذي يضع الورقة النقدية في الحقيبة، والعنصر الذي يمد يده لالتقاطها، أم أن كليهما سيجدان وجهاً جديداً للسلطة يتعاملان معه بالطريقة نفسها؟ يبدو أن المشكلة أعمق من شخص أو نظام؛ إنها ثقافة تغلغلت في الوعي الجمعي حتى صارت تُمارس بعفوية. وربما يكون الامتحان الحقيقي للسوريين بعد الأسد ليس في إعادة بناء الدولة، بل في إعادة بناء الضمير.








