قد لا تبدو العلاقة منطقية بين إدلب “المحافظة السورية الشمالية” المحررة، وستافان دي مستورا “المبعوث الأممي إلى سوريا”، لكنها واقع حال قاتم، قائم ومشهود عليه ويتابع فصوله الملايين دون أن يستطيعوا تغييره أو منع تداعياته، إنه واقع الصمت والإشراف الدولي برعاية دي مستورا ومنظمته الأممية على التهجير الممنهج للمدنيين السوريين الأحرار، وثوارهم، إلى إدلب المحررة بدم ثوار البلد، البلد الذي غدا يعيش حفلة جنون دولي وإقليمي دموية، لا بارقة أمل تلوح في الأفق تبشر بانتهائها.
أول أمس عرضت شاشات التلفزة العربية والعالمية مؤتمراً صحفياً للمبعوث الأممي دي مستورا، ومستشاره للشؤون الإنسانية يان إيغلان تحدثا فيه عن آخر المستجدات على الساحة السورية فيما يتعلق بالعملية السياسية وجهود إغاثة المناطق المحاصرة، ولم يكن لافتاً أبداً أن يؤكد الرجلان ما هو مؤكد عند السوريين، فمنظمتهما عاجزة عن إيصال علبة حليب أطفال إلى المناطق التي تحاصرها قوات الأسد وميليشيات إيران الطائفية في سوريا.
ولم يكن لافتاً في المؤتمر الصحفي أيضاً أن يبقى “الفاعل” المسبب لجوع المحاصرين “مجهولاً” فالسوريون يعرفون الفاعل، ويعرفون أن الأمم المتحدة تعرفه، ولكنها عاجزة عن تسميته بالاسم، فالضعف الذي تبدو عليه الأمم المتحدة أمام محور الإجرام الدولي الذي يضم أنظمة موسكو وطهران ودمشق، واضح فاضح ولا يحتاج أدلة، كما أن رسالة هذا المحور الإجرامي وصلت قوية وساخنة جداً حينما باتت بلدة “أورم الكبرى” في الشمال السوري قبل نحو أسبوعين على مشاهد مجزرة مفجعة ارتكبتها غارات جوية لم يتبناها الروس ولا نظام الأسد، وجاءت رسالتها حارة جداً جداً، لدرجة أنها أحرقت قافلة مساعدات أممية تضم 20 شاحنة بمن فيها من السائقين وعمال الإغاثة، وبما فيها من أغذية وأدوية ينتظرها بلهفة جوعى المناطق المحاصرة.
ما كان لافتاً في المؤتمر هو إعلان دي مستورا مبادرة صادمة، أظهرت حقيقة دوره الذي لعبه منذ تسلم مهمته كمبعوث أممي إلى سوريا، ولم يكن هذا الدور إلا “محامي الشيطان”. دي مستورا دعا في مبادرته عناصر “جبهة فتح الشام” التي ما زال يصر على تسميتها بـ “جبهة النصرة” إلى مغادرة أحياء حلب الشرقية، عارضاً مرافقتهم بنفسه إلى إدلب، وكأنهم لا يعرفون الطريق الذي ساروا عليه مئات المرات، وخاطروا بحياتهم من أجل إسعاف رفاقهم الجرحى على جنباته ومفارقه، وعلى هذا الطريق زف السوريون آلاف شهداء الثورة، الذين قتلتهم طلقات قناصة الأسد وميليشيات إيران “متعددة الجنسيات” الطائفية الطابع، وطائرات بوتين وصواريخه المجنحة!
دي مستورا الذي برع في مؤتمره الصحفي في مغالبة دموعه حزناً على حلب، تحدث عن 900 عنصر من “فتح الشام” وصمت تماماً عن الآلاف من عناصر “فاطميون، وزينبيون، وحركة النجباء، وحزب الله اللبناني” وغيرها من الميليشيات الطائفية، شيعية المذهب، التي ترتزق من ممارسة الإرهاب الطائفي لصالح دولة إيران ونظام الولي الفقيه الحاكم فيها.
دي مستورا هذا لم يكن صاحب مبادرة مستقلة حيادية تستحق الاحترام في أي وقت من أوقات مهمته كمبعوث أممي، وعلى الدوام كان يردد خطاباً منسوخاً بتهذيب عن خطاب رؤية أنظمة موسكو وإيران ودمشق للحل السياسي في سوريا، وعرضه المبادرة الأخيرة يثبت ما نتهمه به منذ سنوات، يثبت بجدية أنه يلعب دور “محامي الشيطان”، وهذا الوصف ليس إهانة ولا شتيمة للرجل، بمقدار ما هو توصيف لواقع الحال، فقد طرح أول أمس بنبرة عاطفية مؤثرة مبادرته على أنها حل لإبعاد الموت والتدمير عن حلب الشرقية وأهلها، ونسي “محامي الشيطان” أن نظام الأسد، الشيطان نفسه، سبق أن أعلن قبله بيوم واحد أنه سيخفف القصف على أحياء حلب من أجل إتاحة الفرصة لخروج أهالي أحياء حلب الشرقية، أي إفراغ المدينة من أهلها، وتهجيرهم، ولم يعلق دي مستورا بكلمة واحدة على هذا الفعل الذي يعتبر جريمة حرب بكل ما تعنيه الكلمةّ!
ومن غير المجدي حقاً أن نطالب الرجل ومنظمته الأممية بإدانة جرائم تهجير السوريين من أماكن سكناهم، فالرجل ومساعدوه ومنظمته ضالعون في رعاية، والإشراف على عمليات واتفاقات تهجير جرت في أكثر من منطقة سورية، كاتفاق تهجير ثوار وأهالي أحياء مدينتي حمص القديمة وداريا، والكثير من اتفاقات الهدن التي أشرف عليها موظفون تابعون لفريق عمل دي مستورا، وهي جميعها اتفاقات استخدم نظام الأسد لإبرامها سلاح الحصار والتجويع وقصف المدنيين لإجبار الثوار على الرضوخ والتوقيع حماية لمدنييهم، وتابعها موظفو دي مستورا كشهود زور، وكان دورهم في بعض المرات أقرب ما يكون لممثلي نظام الأسد، ولم يسمع منهم أحد جملة واحدة تصف حقيقة ممارسات وجرائم قوات الأسد بحق المدنيين في المناطق المحاصرة!
مبادرة دي مستورا شملت أمراً ثانياً لافتاً، فالوجهة التي عرضها على مقاتلي “جبهة فتح الشام” بعد انسحابهم من أحياء حلب الشرقية، هي محافظة إدلب!
لماذا إدلب سيد دي مستورا؟ يسأل البعض، ولا جواب عنده، إذ أنه لم يملك جواباً لنفس السؤال عندما تابع حملة تهجير سكان الزبداني وبعدهم أهالي داريا، والوجهة كانت دائماً إدلب، ولعله يعرف الجواب ولا يريد الإفصاح عنه، فمن غير المعقول ألا يكون هناك سبب لاختيار إدلب دون غيرها من المناطق المحررة.
يقول مراقبون أن الروس ونظام الأسد يعملون على خطة قطعوا في الطريق إلى تحقيقها شوطاً لا بأس فيه، والخطة تقتضي تهجير الثوار والمدنيين من ريف دمشق بغوطتيه الشرقية والغربية، والقلمون الشرقي وصولاً إلى الزبداني ومضايا وقدسيا والهامة، وحي الوعر وريف حمص الشمالي، وأهالي وثوار ريف حماه الشمالي والغربي، وجعل الخيار الوحيد المتاح لهم هو إدلب، تمهيداً لإحكام السيطرة على سوريا المفيدة، والانتقال لخطة تالية، تتضمن قضم والسيطرة على المناطق الجنوبية في درعا والقنيطرة، التي تعيش جبهاتها حالياً شهور عسل واستراحة طالت، وتراخت معها همم قادة الفصائل، وتأتي بعدها خطة الانقضاض على إدلب، وطرد الأحرار السوريين من منفاهم الأخير.
ويقول البعض أن هذه الخطة تحتاج سنوات لتنفيذها في حال لم يقم الطرف الثاني، الثوار وداعموهم، بتحرك مضاد، وهو رأي صحيح، ولكن الصبر واللعب على عامل الوقت هما أبرز ميزات نظام الأسد، ألم يصبر ومعه حلفاؤه سنوات على تنفيذ مخططهم في ضرب الثورة بغلاة ومتطرفي “المجاهدين”، وصغار المعارضين؟
يدرك الثوار والمعارضون الوطنيون أن المبعوث الأممي ليس بريئاً من الانحياز للرؤية المضادة لثورتهم، وأن دوره كمحام للشيطان يمكن إسقاطه فيما لو أظهروا في مواجهة مبادراته المريبة، صلابة ليست أقل من صلابة أبناء ومدنيي الثورة الذين يواجهون براميل الأسد المتفجرة وطائرات وصواريخ بوتين المجنحة بكل كبرياء ويعضون على جراحهم ويصبرون على التضحيات من أجل مستقبل حر وكريم لأبنائهم.
كما يدرك قادة “جبهة فتح الشام” أنهم مستهدفون، والثورة مستهدفة، وأنهم ثغرة ينفذ الخطر إلى الثورة منها، ويدركون أيضاً أن بيدهم سد هذه الثغرة، والخيار بيدهم، حتى الآن.
أما إدلب وأحرارها، وموقفهم الكريم وحفاوة استقبال الأحرار المنفيين إليها.. فليس أقل من أن نقول فيهم قول الشاعر:
فأحسن وجه في الورى وجه محسن.. وأيمن كف فيهم كيف منعم.
* “مدونات الجزيرة”
عذراً التعليقات مغلقة