في جذور أزمة الحكم والدولة في سورية الحديثة

برهان غليون11 أغسطس 2025آخر تحديث :
في جذور أزمة الحكم والدولة في سورية الحديثة
السياسي برهان غليون

بعد أشهر معدودة على الحفاوة الجامعة التي حظي بها الحكم الجديد، تعصف بسورية اليوم رياح أزمة ثقةٍ كبيرةٍ تغذّيها مخاوف متباينة، مخاوف الغالبية على استقرار النظام ومن السعي إلى إسقاطه. وبالعكس، مخاوف قطاعات متزايدة من الرأي العام من احتمال سعيه إلى تأسيس سلطة طائفية محافظة تهدّد الحريات وتنتقص بشكل خاصّ من الحقوق القانونية للأقليات الدينية أو القومية وللنخب السياسية العلمانية. عوامل عديدة ساعدت على التدهور السريع في المناخ السياسي وتأزّم علاقات السلطة مع بعض القوى والنُّخب الاجتماعية، أبرزها التدخّلات الخارجية المتقاطعة أو المتناقضة التي تمارَس على السلطة الجديدة، وتُضعف من صدقيتها الاستراتيجية واستقلال قرارها وسيادتها. ثمّ فقدان هذه السلطة الوسائل والإمكانات المادّية والإدارية التي تمكّنها من معالجة الإرث الثقيل والدامي أكثر من نصف قرن من حكم الديكتاتورية والطغيان، بصورة سلسة وسليمة. لكن أكثر هذه العوامل أهمية، وأكثرها خطراً على مكانتها، الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها، كما تجلّت في مجازر الساحل وصحنايا والسويداء الكارثية، والتي أظهرت ضعف سيطرة الدولة على نفسها وعلى آلة العنف التي تملكها، وسوء تخطيط قياداتها الأمنية. لكن، فيما وراء هذه الأخطاء جميعاً وما يساعد ربّما على فهم أسبابها وتجاوزها، تكمن في بنية السلطة ذاتها، وأولوياتها، وطبيعة علاقتها مع المجتمع، أفراداً وجماعاتٍ.

وهنا أريد أن أميّز بين نمطين من السلطة، الأول قائم على منطق الجماعة/ العصبة (القبيلة أو الطائفة أو القومية الإثنية) الذي يقوم (بحسب ابن خلدون) على العصبية، فلا إمارة من دون عصبية قوية. والإمارات لا تقوم إلا من حول أمير يجسّد السلطة بأكملها، هو روح الكيان ومحرّكه وسيده، به تبدأ حياته وبه تنتهي. ما يسم السلطة في الإمارة أنها شخصية، مرتبطة بشخص الأمير أو الشيخ أو الولي الفقيه، وتستمدّ شرعيتها من الغلبة أو الوراثة أو الكاريزما الشخصية. ويكون الولاء فيها للزعيم أو للجماعة، وإرادة الزعيم هي القانون. والنتيجة: لا توجد مواطنة ولا حقوق سياسية ولا مشاركة من أي نوع في السياسة وإنما تبعية وموالاة، فالناس أتباع للأمير أو للشيخ أو للزعيم ومُواليهم. وفيها تتوزّع المصالح والامتيازات بحسب القرب من زعيم الجماعة، على مبدأ الأقربون أولى بالمعروف، لا بحسب الكفاءة أو الاستحقاق.

والثاني منطق الدولة، وقوامه فكرة القانون المجرّد. تتميز السلطة في الدولة الحديثة بأنها مؤسّسية، تستند في شرعيتها إلى القانون والدستور، ويكون فيها الولاء للقانون وللمؤسّسات، لا لشخص الحاكمين. وعلى عكس الجماعة القائمة على العصبية، لا تنتقل السلطة في دولة القانون إلى الأفراد أو المسؤولين عبر القرابة العضوية أو الروحية أو المصلحة الخاصّة، وإنما من خلال آليات قانونية (انتخابات، تفويض دستوري، مؤسّسات)، وتُمارَس وفق قواعد معلنة ومجرّدة، وليس بحسب مزاج الزعيم أو الشيخ أو ميزان القوى بين العصبيات. وفي منطق الدولة الحديثة، لا يكون القانون أداةً في يد الأقوى، بل هو مرجعية عليا يخضع لها الحاكم والمحكوم على السواء. وهذا ما يسمح بوجود “دولة القانون” التي تحمي الحقوق وتحاسب السلطة نفسها، بل تضعها ورجالاتها أمام المساءلة الدائمة. وعلى رجل الدولة أن يقدّم باستمرار حساباً لمحكوميه، لأنه مفوّض منهم، لا سيّداً عليهم.

انتشر نموذج الدولة الحديثة بين شعوب الأرض جميعاً بعد سقوط الإمبراطوريات، فحرّر الفرد من التبعية الآلية للسلطة، وحوّله قيمةً في ذاته، ووسّع دائرة اختياراته وإرساء أسس سلام اجتماعي مستدام وعدالة شفّافة، فكان لهذا النموذج الدور الأكبر في ازدهار الأعمال والأفكار والمعارف والنشاطات الفنّية والأدبية. لكن نجاحه لا يعني، بالضرورة، زوال العصبيات الطبيعية أو الأهلية واستحالة الارتداد، فالروح العصبوية يمكن أن تستعيد فاعليتها بسرعة في أثناء الأزمات الكبرى. وهذا ما نشهده في كلّ مرّة تفقد فيها الدولة سيطرتها أو تنهار سلطة القانون، فتولّد من جديد التضامنات الأهلية، وترسم حدود الجماعات بالدم، ويسود الفوضى ومنطق التوحّش والحرب. وهذا ما حصل (ويحصل) في عديد من الدول الأفريقية والعربية، ونحن منها، بالرغم من أن كليهما (العصبية والدولة) فقدا ديناميتهما الذاتية وأصبحا، في حالاتٍ كثيرة، أدواتٍ في أيدي الدول الكبرى والصراعات الجيوسياسية.

الهدف من هذا التمييز ليس فلسفياً، بل عمليٌّ يهدف إلى فهم وتحليل كيف انزلقت الدولة السورية، مثل دول عديدة في المنطقة، منذ عقود طويلة، من منطق الدولة إلى منطق الإمارة، ومن الإمارة إلى الجماعات العضوية أو الأهلية. وربّما يساعد على تحليل الأزمة التي يعيشها الاجتماع السياسي السوري منذ الاستقلال عام 1946. فبالرغم من أن سورية، رسمياً، أي شكلياً، أصبحت “دولة” منذ ذلك الوقت، إلا أن بنيتها الحقيقية بقيت تتأرجح بين منطقي الدولة والجماعة العضوية ما قبل الدولة. وقد انتهت الانقسامات المناطقية وجماعات المصالح الاقتصادية والتجارية، التي مزّقت النُّخبة الاستقلالية بين شمال وجنوب وريف ومدينة وانتماءات مذهبية أو طائفية في الدولة الوليدة، إلى العطالة الكاملة، ما دفع بعض قادتها العسكريين في 1958 إلى طلب الاندماج بالدولة المصرية من دون قيد أو شرط.

ولم يكن البديل بعد الانفصال عام 1961 إعادة ترسيخ أسس الدولة، وإنما صراعات لا تنتهي على أرضية أيديولوجية وطائفية انتهت بانتزاع حزب البعث السلطة، لتبدأ حقبة جديدة من صراع الأجنحة والتيارات داخل الحزب نفسه، قبل أن يحسم حافظ الأسد النزاع. وبقيت سورية بالمعنى الحرفي إمارة خاصّة، لم يتردّد في توريثها من بعده لمن استطاع من أبنائه. هكذا تحوّلت مؤسّسات الدولة إلى واجهة لسلطة شخصية لا مكان فيها لشعب ولا قانون ولا أحزاب. ووُضِعت أجهزة الدولة والحزب في خدمة شبكة ولاءات شخصية وعائلية وطائفية، خفيّة في البداية، ثمّ أكثر وضوحاً مع مرور الوقت، وبشكل أكبر في عهد وريثه.

والأجهزة الأمنية التي كان من المفروض أن تعمل على إنفاذ القانون وحفظ النظام العام تحوّلت أدواتٍ لتعطيل القانون وممارسة القمع والابتزاز والتشليح والسرقة وإذلال الناس وتوزيع الحماية على الموالين والأنصار.

لذلك، لم يكن انتقال الحكم من الأب إلى الابن مجرّد حادث عرضي، بل كان تعبيراً فاقعاً عن تسيّد منطق الإمارة الشخصية القائمة على منطق العصبية حيث الحكم يُرى إرثاً طبيعياً، لا عقداً اجتماعياً بين الدولة والمجتمع. وبدلاً من أن يتمتّع المجتمع بحقّ منح الشرعية أو مراقبة السلطة، أصبح مطبّلاً إجبارياً للعصبة الحاكمة. واختُزلت السياسة في إكراه الناس، جمهوراً وحواشيَ، على تقديم فروض الطاعة والولاء، كما أصبحت المعارضة خيانة، والوطنية انتحاراً.

وبتقويض منطق الدولة وإعدام السياسة ومعنى القانون، غاب مفهوم الشعب بالمعنى السياسي، وعاد منطق ما قبل الدولة، وأُعيد إحياء منطق الطوائف وجماعات المصالح والمافيات، وانتعشت المخاوف والأحكام المسبقة بين الجماعات والعصائب المتناحرة، ولم يبقَ لمفهوم المواطنة أثر يذكر. وكنت قد وصفت نظام الأسد في كتاباتي السابقة بأنه نظام الحرب الأهلية الكامنة، إذ أعيد تقسيم المجتمع بين طوائف وعصبيات تقف وجهاً لوجه في انتظار الشرارة التي لم تمنع اشتعالها إلا سطوة الأجهزة العسكرية والأمنية والعنف الاستثنائي، الذي قام عليه ردع المجتمع بأكمله، بما فيه الموالاة نفسها.

إدراك ثوار 2011 هذه الحرب الكامنة هو ما دفعهم إلى التركيز في شعارات توحيدية، مثل “الشعب السوري واحد” و”اللي بيقتل شعبه خاين”، وإلى تخصيص عناوين مظاهرات الجمعة بأسماء قادة وطنيين متعدّدي الطوائف والإثنيات. وكان ذلك بمثابة تحذير من السقوط في هذه الحرب. لكن النظام لم يتردّد، منذ الأيام الأولى، من التهديد بسلاحه، عندما استخدم الرصاص الحي لقتل المتظاهرين، ولم يوفّر مناسبةً ولا وسيلةً للاستفزاز من دون أن يستخدمها لإشعالها. وتقصَّد بث فيديوهات عن تعذيب النشطاء وقتلهم واغتصاب نسائهم وشتم عقائدهم وأديانهم لدفعهم إلى الاشتباك، بالرغم من عدم توقّفهم عن ترديد شعار “سلمية سلمية”، حتى تحت التعذيب.

هكذا تحوّلت الدولة نفسها عصبةً (بل عصابة) تستخدم الجميع للدفاع عن بقائها بما فيها الطوائف التي كانت تدّعي حمايتها. ودخلت البلاد في حربٍ دمويةٍ أعيد في لهيبها بناء الجماعات الأهلية والتضامنات المحلّية والطائفية والقومية، كما لم تعرفها البلاد من قبل. وتشكّلت الفصائل الأهلية التي تنازعت فيما بينها على الموارد والغنائم والنفوذ معتمدة على الولاءات الشخصية. ولم تنجح الثورة بسبب ذلك في تشكيل أي مؤسّسةٍ سياسيةٍ راسخة ومستقلّة أو جبهة وطنية. واختفى الحديث عن الشعب هُويَّةً سياسية، وحلّ في محله مفهوم “المكونات”، وهي بذور إمارات حرب تعيش على شحن العصبيات الأهلية واستغلالها لتقاسم السلطة والنفوذ.

تكرّر الأمر نفسه تقريباً بعد دخول تحالف فصائل “ردع العدوان” دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. غمر الفرح جميع السوريين الذين شعروا أنهم تحرّروا من كابوس، واستعاد الناس بسرعة شعارات الوحدة، وساد الأمل بولادة سورية جديدة حرّة ومستقلّة يتعايش فيها الجميع من دون تمييز. وتنتهي فيها الفصائلية والتقسيمات الطائفية والعِرقية التي حالت دون قيام أيّ سلطة سياسية شرعية وموحّدة. ثم لم تمضِ إلا أشهرٌ على قيام الحكم الجديد، حتى تفجّر الصدام، كما لم يحصل في أي وقت، بين السلطة الجديدة والجماعات والفصائل المحلّية، التي أرادت الحفاظ على مزاياها واستقلالها. لم يعد الحديث عن حقوق عامة ومصالح وخيارات سياسية تعني الجميع، وكلّ سوري، وإنما عن “المكوّنات” وحقوقها الخاصّة، أي حقّ الفصائل والعصائب في تمثيلها والحديث باسمها. وأصبحت الدعوة إلى الفيدرالية واللامركزية عقيدة سياسية تخفي إرادة احتفاظ الفصائل بامتيازاتها ومكاسبها على حساب الدولة، لا قضيةً إداريةً مطروحةً للمناقشة الوطنية.

هل يمكن لفصيل مسلّح أن يبني دولة؟ … عوامل ثلاثة أدّت إلى تفجير هذا الصراع وعودة صراع العصبيات إلى الواجهة. الأول تخبّط الفصيل/ الفصائل المسيطرة في رسم طريق الانتقال من منطق الثورة (في الواقع عصبية الفصيل) إلى منطق الدولة، أي منطق السياسة، كما ذكر الرئيس أحمد الشرع في خطبه الأولى، وربّما أيضاً عدم إدراك قادة هيئة تحرير الشام حجم تلاشي مفهوم الدولة وتغلغل منطق العصبية في العقول والنفوس. والثاني الثقة المبالغ فيها بقدرة الدول الداعمة على تقديم مساعدة فعالة في عملية تفكيك قنبلة هذه العصبيات وإدماج رجالها في الدولة الجديدة. والثالث، الاعتماد على الأساليب الموروثة من عهد الإمارة، وربّما جهل أكثر كوادرها بمنطق الدولة ذاته. والرابع (الأكثر أهمية) التدخّل الخارجي العميق في تقرير المصير السوري، وتورّط عديد من القوى والجماعات العصبوية والسياسية فيه.

وبينما أقلق سلوك السلطة الجديدة، الذي لم يخرج عن الأسلوب العصبوي التقليدي، قطاعاتٍ واسعة من الجمهور السياسي، استفزّت مناوراتها الارتجالية العصائب الأخرى التي أدركت أن الهدف الأول للنظام الجديد تفكيكها. ونحن نشهد اليوم ما يشبه التمرّد لدى هذه العصائب على مشروع الدولة الوليدة، قبل أن تثبّت أركانها. وما سمّي “مؤتمر المكوّنات” في الحسكة هو الإعلان الرسمي عن رفض الاندماج، والمطالبة بتقاسم السلطة من خلال الاعتراف بإمارات خاصّة لكلّ عصبة وجماعة. هذا هو جوهر المأزق الذي نواجهه اليوم في انتقالنا السياسي الصعب والمعقّد. والسؤال المطروح بالفعل: هل يمكن لفصيلٍ اعتاد منطق الحرب أن يتخلّى عن سياسة التعبئة والحشد والمواجهة ويتبنّى منطق السياسة التي تستطيع وحدها إحراز تقدّم على طريق بناء دولة أو “الدولة”؟… لا شيء مستحيل، لكن ليس مؤكّداً. لا شيء مستحيل لأن كلّ الدول تكوّنت في البداية إمارات حرب أو وراثة، اعتمد فيها القائد أو الأمير على عصابةٍ تابعة له، وأحياناً على مرتزقةٍ يدينون له بالولاء، بل لا يمكن أن تُبنى الدولة، كما ذكر ابن خلدون، من دون عصبية قوية تقضي على منافسيها وتخضعهم لسلطتها، وتتحوّل إلى سلطة مركزية ذات سيادة. والسيادة أبرز ما يميّز الدولة من الإمارة. ولكن كي تنجح في التحوّل إلى دولة ينبغي، أولاً، أن تتمثّل مبادئ الدولة، وتلبس لباسها، وتتحوّل سيفاً في يدها، لا معولاً لهدمها. فهي لن تستطيع أن تفرض نفسها سلطةً مركزيةً للدولة على العصائب الأخرى، من دون أن تتبنى منطق الدولة، وتخضع لقواعد عملها، وتعمل من خلال مؤسّساتها الإدارية والقانونية. لا يستدعي ذلك بالضرورة أن تتخلّى عن عصبيتها، وهو مستحيلٌ عملياً، وإنما أن تخرج من جلد العصبية وتتعلّم وتتمثّل، إلى جانبها وإضافة لها، معنى الدولة ومبادئ الإدارة السياسية، وهي غير إدارة الحرب، فمنطق العصبية التنافس، بل التنازع مع مثيلاتها على المواقع والموارد، ولا تقبل الخضوع لسلطة أعلى منها أو التحالف معها إلا بالقوة. لذلك هي في احتراب دائم، والاحتراب مغذّيها ومبرّر وجودها. لذلك كي تنجح “عصبة الدولة” في إخضاع الفصائل المتمرّدة ينبغي أن تخرُج هي أولاً من منطق العصبية والحرب، وتطوّر في وعيها وسلوكها إلى جانب إدارة القوة، وأكثر فأكثر بدلاً منه، منطق الدولة والسياسة الذي يساعد وحده على الجمع بين تشكيلات وجماعات مختلفة ومتآلفة.

والسياسة، كما يروى عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال عندما سئُل: “كيف حكمت الشام عشرين عاماً أميراً، ثمّ حكمت بلاد المسلمين عشرين عاماً أخرى خليفةً للمسلمين؟ فقال: “لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدّوها أرخيْتها وإذا أرخوها مددتُها”. ولا يعني هذا أن السياسة تصلح من دون قوة، لكنّه يشير إلى أهمية الاقتصاد في العنف لبناء حقل السياسة. ثمّ تقديم الوسائل السلمية بدل العسكرية ما أمكن، كعقد التحالفات والبحث عن التسويات، بما في ذلك إشراك الطرف أو الأطراف الأخرى في السلطة أو الثروة، أي إعطاء تعويضات أو مكافآت مادية أو سياسية. وهذه الشراكة التي تكسر الاحتكار هي التي تقوّي خيار الدولة على حساب التمسّك بالإمارة أو العصبة. هكذا تشكّلت الدول وولدت الأمم متعدّدة المشارب والعقائد والتجمّعات والعصائب والأحزاب، وصارت وطناً ترجع ملكيته لجميع أبنائه.

وثانياً، أن يتقمّص الحاكمون منطق الدولة ويساهموا في بناء مؤسّساتها الإدارية والسياسية التي لن تكون غنائم للمنتصرين، إنما تكون أداةً لتنظيم المصالح المشتركة للمجتمع، ومصهراً لإنتاج الوطنية.

أما ثالثاً، فأن يعيدوا تأهيل عناصرهم ليتمكّنوا من إدارة هذه المؤسّسات، وليس لمجرّد السيطرة عليها ومنع الآخرين من الانتفاع منها. وهذا يستدعي أيضاً ألا تكون الوظيفة في دوائر الدولة حكراً على عصبية: طائفة أو قبيلة أو حتى طبقة، أو ملكية حصرية لجماعة حاكمة أو لائتلاف. وعليهم (رابعاً) أن يلبسوا لبوس الدولة، ويتمثّلوا قوانينها شكلاً ومضموناً، ويخضعوا هم أيضاً لقوانينها، ويتخلّوا عن عادات “الجاهلية”، أي العصبوية وأعرافها وأسمائها وأفعالها. وأن يسمّوا أصحاب المناصب والمسؤوليات بأسمائهم: موظفاً أو مسؤولاً أو مديراً أو رئيس دائرة، لا أخاً ولا شيخاً ولا معلماً ولا فقيهاً ولا إماماً، بما يشير إلى وظائف إدارية أو سياسية لا دينية ولا علمية.

وخامساً، ألا ينظروا إلى الجمهور بحسب انتماءاته الدينية أو القومية أو الجنسية، ولا نسبته إلى أقلية أو أكثرية، إنما شعباً. والشعب مجموع الأفراد الذين يكوّنون في مواجهة الدولة كياناً أو هُويَّة سياسية مستقلّة هي مصدر السلطة الشرعية، وسابقة عليها، وظيفتها مراقبة السلطة التي تمثلها ومساءلتها، وإذا اضطر الأمر سحب التأييد لها. لا يكون الجمهور شعباً إلا عندما يكون هو (ورمزياً كلّ فرد) مصدر السيادة والشرعية للقانون. وسابعاً، ينبغي إطلاق الحرّيات العامة والإقرار بحقوق الأفراد الشخصية أولاً، ثمّ العامّة: تشكيل الأحزاب والانتخابات النقابية وإقامة المنظّمات المدنية الثقافية والاجتماعية وتنظيم الدورات العلمية والتربوية. هذا هو في المرحلة الانتقالية الدليل على التوجّه نحو دولة تعدّدية والمشاركة السياسية وعدم التخطيط لاحتكار العمل السياسي والاجتماعي من فصيل أو فريق أو طبقة أوليغارشية. ثامناً، تثبيت حكم القانون وبناء المؤسّسات السياسية والإدارية والأمنية الرئيسة على أسس المواطنة الواحدة والكفاءة والاختصاص، لا على أساس الولاء والقرابة الشخصية أو الأيديولوجية أو المناطقية.

لن تخرج سورية من أزمة الحكم التي لا تزال مستمرّة منذ الاستقلال بسبب اختلاط منطق العصبية ومنطق السياسة وفسادهما معاً، التي دفعت إلى انهيار الدولة في الخمسينيّات، وإلحاقها بدولة أخرى، من دون قيد أو شرط، ثمّ قادت، بعد ستّة عقود من حكم الأسد، إلى انهيار الدولة واندلاع الثورة والحرب الأهلية وتفكّك البلاد، ما لم ينجح السوريون في الانتقال من منطق العصبة إلى منطق الدولة، فتأسيس مفهوم الدولة والولاء للقانون مقابل الولاء للجماعة (الطائفة أو القبيلة أو القوم، أو الطغمة الأوليغارشية) ينبغي أن يكون جوهر أيّ مشروع سياسي تحرّري في البلاد، وهو يتطلّب إعادة تعريف المواطنة بوصفها المصدر الأساس للحقوق وللشرعية، وبناء مؤسّسات شفّافة وخاضعة للمساءلة على جميع المستويات: من السلطة المحلّية إلى السلطة الرئاسية، ونشر ثقافة القانون والاعتراف بشرعية التنوّع الديني والثقافي والقومي والمناطقي، لا بوصفه قطيعةً وانفصالاً، وإنما تعدّداً مثرياً للروح والفكر والثقافة. وإلى أولئك المستعجلين إسقاط النظام القائم أقول: لا يكفي سقوط النظام للعبور نحو الحرية، بل لا بدّ من إسقاط منطق العصبة الذي شكّل نقطة ضعف الدولة الأسوأ، لعقود طويلة، في سورية منذ نشوئها، والذي لا يزال يعوق تشكّلها وانطلاقها. فالتحدّي الحقيقي هو بناء دولة، لا إسقاط نظام… دولة يتساوى فيها السوريون أمام القانون، وتُبنى فيها السلطة على إرادة الشعب لا على الغلبة. دولة تُنهي منطق “نحن” ضدّ “هم”، وتؤسّس لـ”نحن” الشعب الواحد الجامع.

وضعت، في التسعينيات، لأحد كتبي عنوان “نظام الطائفية… من الدولة إلى القبيلة”، حاولت فيه أن أصف كيف قوّض اختطاف الدولة، وإعدام السياسة، وانتحال الوطنية، ووضع البلاد في خدمة عصبة عسكرية طاغية، ميثاق الوطنية، وإعادة تفعيل المشاعر والعصبيات الطائفية والعرقية في صفوف جمهور السلطة والمجتمع معاً. ما هو مطلوب منا اليوم، إذا لم نشأ أن نعيد التجربة الماضية ونستمرّ في الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها التي أودت بسورية إلى الهاوية، أن نفعل العكس: أي الانتقال من منطق القبيلة وحروبها إلى منطق الدولة وسيادتها وسلامها الضامن لوحدة مجتمعاتها. هذا هو ثمن التقدّم ولا شيء غيره ولا بديل منه. وإذا لم نعمل منذ الآن على إعادة القطار إلى هذه السكّة الصحيحة، فنحن نغامر بأن نضحّي بكلّ ما حقّقناه من مكاسب، بما فيها القضاء على حكم العصابة السابقة، وسنفتح الباب أمام إحياء وانفلات جميع العصبيات الراكدة أو الضعيفة وتشجيعها للتعويض عن غياب الدولة ومؤسّساتها الحامية والكافلة، وربّما تدشين دورة جديدة من الصراع الدامي بين العصائب والفصائل والمليشيات التي يشكّل النزاع والقتال (كما ذكرت) غذاءَها ومبرّر وجودها معاً. سيكون ذلك تجديداً لعصر الفوضى الضاربة، حيث لا سيادة في الأرض ولا احتكار للعنف، ولا لزوم للشرعية، ولا وجود لشعب، وإنما (كما درج على تسميته بعضهم) “مكوّنات”، أي جماعات وطوائف وعصبيات بعضُها يعادي بعضاً، وتتنازع على فتات اعترافات خارجية واهية، إن لم تكن مهينة.

المصدر العربي الجديد

اترك رد

عاجل