العدالة الانتقالية في سوريا: بين الطموح الشعبي وتعقيدات الدولة والتأثيرات الخارجية

فريق التحرير15 يونيو 2025آخر تحديث :
العدالة الانتقالية في سوريا: بين الطموح الشعبي وتعقيدات الدولة والتأثيرات الخارجية
مدين يحيى

مرّت سوريا بأكثر من عقد من الصراع الذي مزّق نسيجها الاجتماعي والسياسي، وترك خلفه جراحاً عميقة في قلوب أبنائها. في ظل هذه الظروف، يبرز موضوع العدالة الانتقالية كإحدى أهم المطالب التي يحملها الشارع السوري، وخاصة بين فئات الثوار الذين سعوا لتغيير جذري في البلاد. لكن مع هذه المطالب النبيلة، تتعاظم التحديات أمام الدولة الجديدة المحتملة، التي تواجه وضعاً داخلياً هشاً ومعقداً، إضافة إلى تأثيرات خارجية متشابكة تزيد من تعقيد المشهد.

الجانب المجتمعي والثوري: صوت الحلم بالعدالة

يعيش الشارع السوري اليوم حالة من الاحتقان النفسي والاجتماعي، مستنداً على تجارب شخصية وجماعية من القتل، الاعتقال، التعذيب، والتهجير. الثوار، الذين ضحوا بأرواحهم وأمنوا بمستقبل مختلف، يرون أن العدالة الانتقالية ليست فقط مطلباً قانونياً، بل هي حاجة أخلاقية واجتماعية لاسترداد الكرامة والحق.

هذا الحلم العدلي يحمل في طياته مطالب واضحة: محاسبة الجلادين مهما كانت مواقعهم، فضح الفساد السياسي، ومحاسبة كل من دعم النظام السابق، حتى بالكلمة أو الفعل. هذا الموقف يعكس رغبة عميقة في قطع جذور الماضي الظالم وفتح صفحة جديدة مبنية على حقوق الإنسان والكرامة.

ومع ذلك، يبقى فهم العدالة الانتقالية لدى العديد من الفاعلين الثوريين محدوداً أو مشوشاً، حيث تُختزل العدالة في العقاب، وأحياناً في الانتقام، مما يخلق صراعات داخلية حول كيفية تحقيقها، ويزيد من صعوبة بناء توافق وطني حقيقي.

صعوبة موقف الدولة: تحديات داخلية وخارجية

إن أي كيان سياسي جديد في سوريا يطمح لتطبيق العدالة الانتقالية سيجد نفسه أمام مفارقة معقدة:

الشرعية الشعبية المتذبذبة: عدم وجود توافق شعبي واضح حول مفهوم العدالة، بين من يرغب في حساب صارم ومن يرى ضرورة الاستقرار أولاً.

ضعف المؤسسات: النظام القضائي والإداري متهالك أو مشكوك في نزاهته، مما يضعف قدرة الدولة على إدارة العدالة بحرفية ومصداقية.

التركيبة المجتمعية المعقدة: تعدد المكونات الدينية والطائفية والإثنية، ووجود جروح عميقة بين هذه المكونات.

التأثيرات الخارجية: سوريا ليست ساحة معركة داخلية فقط، بل محور صراعات إقليمية ودولية. تدعم قوى مختلفة أطرافاً متناقضة في الصراع، مما يعرقل محاولات بناء سلطة مركزية مستقلة وقادرة على فرض العدالة.

ومن المهم التأكيد هنا أن تجارب العدالة الانتقالية في معظم الدول لم تكن مثالية، ولا توجد عدالة مطلقة يمكن أن تحقق كل المطالب في وقت واحد أو بطريقة كاملة. فهذه التجارب دائماً ما تكون محكومة بتوازنات سياسية واجتماعية، وتواجه تناقضات وصراعات داخلية وخارجية، مما يجعل العدالة الانتقالية عملية صعبة ومعقدة، تحتاج إلى تضحيات وصبر كبيرين.

هذه العوامل تجعل من مسار العدالة الانتقالية عملية محفوفة بالمخاطر، تحتاج إلى إدارة دقيقة ومتوازنة، تراعي حقوق الضحايا وتحافظ على السلم الأهلي.

الخلاصة

العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد ملف قانوني أو سياسي، بل هي اختبار حقيقي لوعي المجتمع السوري وقدرته على تجاوز الماضي المؤلم لبناء وطن جديد. احترام مطالب الثوار يجب أن يقترن بفهم عميق لتعقيدات الواقع السوري، وحالة الانقسام الداخلي، والضغوط الخارجية. دون ذلك، قد تتحول العدالة إلى سلاح صراع جديد يعيق أي مشروع سلام حقيقي.

لذلك، من الضروري أن تبدأ العملية العدلية بحوار وطني شامل يشرح مفاهيم العدالة الانتقالية، ويعمل على بناء توافق مجتمعي، ويضع آليات شفافة وعادلة للمحاسبة والمصالحة، مع إشراك المجتمع الدولي بشكل يضمن حياد وفعالية هذا المسار.

اترك رد

عاجل