سينعم لبنان، أخيراً، بشيء من الراحة، بعدما دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ منذ فجر الأربعاء، لتبقى الهواجس من مقبل الأيام، سواء لجهة مدى صمود وقف إطلاق النار أو لجهة الاستحقاقات الداخلية التي ستفرض نفسها على اللبنانيين. ذلك أن الشهية الإسرائيلية المفتوحة للبطش بمحيطها ما زالت بكامل زخمها، في غزة والضفة الغربية وسوريا وربما في العراق الذي يتلقى التهديدات الإسرائيلية عبر الوسيط الأمريكي. لكن المخاوف اللبنانية من اليوم التالي للحرب، في حال صمد الاتفاق في الشهرين المقبلين على الأقل، تبقى هي الأبرز. فصحيفة «الأخبار» الناطقة باسم حزب الله بصورة غير رسمية صدّرت عددها ليوم الأربعاء بمانشيت «صامدون… منتصرون»! وتضمن النص الافتتاحي للملف الذي حمل هذا العنوان تفسير الحزب للاتفاق بأنه «مجرد تكرار للقرار 1701» الذي أنهى حرب العام 2006، مضيفاً أن «العدو» أراد أولاً تطبيق القرار 1559، لكن «صمود مقاتلي المقاومة» فرض عليه التراجع إلى القرار 1701. مؤدى هذا الكلام أن ما بعد الحرب الحالية، بالنسبة للحزب، سيكون تكراراً لما بعد الحرب الأولى، أي تغول حزب الله مجدداً على الدولة اللبنانية وإسكات أي صوت داخلي يطالب بنزع سلاحه شمال نهر الليطاني، بعدما ينتهي وجوده في جنوبه كما يفترض اتفاق وقف النار.
وقد سبق الأمين العام الجديد للحزب نعيم قاسم أن تحدث عن الاستحقاقات الداخلية في خطابه الأسبوع الماضي، حين تحدث عن اتفاق الطائف إطاراً للحياة السياسية في المرحلة المقبلة، وقال إن الحزب سوف يساهم في إجراء الانتخابات الرئاسية وما سيلي ذلك من تشكيل حكومة جديدة.
ولكن ربما فات الحزب وصحيفة الأخبار أن الاتفاق الجديد قد ولد في شروط مختلفة تماماً عما كانت عليه في العام 2006، فضلاً عن الشروط التي يتوقع أن تشتد قسوةً على المحور الإيراني عموماً مع بداية العام القادم حين يتسلم دونالد ترامب منصبه في البيت الأبيض. فالوجود الإيراني في سوريا أصبح مهدداً بالانتهاء في المرحلة المقبلة، ورأينا أولى طلائع هذا التوجه الإسرائيلي ـ الأمريكي في كثافة الغارات ونوعيتها التي تستهدف المواقع الإيرانية، وكان أحدثها وأشدها دموية في مدينة تدمر شرق سوريا، وبلغ عدد ضحايا أكثر من مئة قتيل. كما أن وزارة الخارجية الأمريكية تحدثت عن تعاون من النظام السوري لوقف تهريب السلاح إلى حزب الله عبر الحدود السورية، وهذا أمر غير مستغرب من النظام الذي يسعى لحفظ رأسه وسط الجحيم الإقليمي المشتعل.
الشهية الإسرائيلية المفتوحة للبطش بمحيطها ما زالت بكامل زخمها، في غزة والضفة الغربية وسوريا وربما في العراق الذي يتلقى التهديدات الإسرائيلية عبر الوسيط الأمريكي
لا نعرف بعد كيف سيتم تطبيق بنود الاتفاق فيما خص إخلاء جنوب الليطاني من حزب الله وسلاحه. نظرياً من المفترض أن يشرف الجيش اللبناني على هذه العملية. ولكن هل يملك الجيش الإرادة والقدرة على التنفيذ؟ هل يسلم الحزب مواقعه طوعاً للجيش اللبناني؟ وإذا تلكأ الحزب والجيش في التنفيذ هل سنشهد المزيد من الغارات الإسرائيلية في الجنوب؟ كلها أسئلة برسم الأيام والأسابيع القادمة. ولكن ما دامت إيران تغازل إسرائيل والولايات المتحدة من خلال تهنئة اليهود بأحد أعيادهم، وإبداء الاستعداد للتفاوض مع واشنطن، كما بفعل الجراح العميقة التي تلقاها الحزب منذ منتصف شهر أيلول، وبخاصة تصفية كامل الصف القيادي السياسي والعسكري، يمكن أن نتوقع التزاماً أقرب إلى الكمال بالانسحاب من جنوب الليطاني، بهدف الحفاظ على ما تبقى من قوة الحزب لاستثماره في السياسة الداخلية اللبنانية.
فمن الصعب أن نتخيل حزب الله وهو يتحول إلى حزب سياسي شيعي وحسب، مثله مثل بقية الأحزاب اللبنانية، وينتظم في المنظومة الطائفية وفقاً لحجم قاعدته الشعبية، ليتشكل توافق بين المكونات اللبنانية في إطار الدولة. فهو من حيث النشأة والتكوين حزب مرتبط بإيران وتقوم عقيدته على الحرب (ضد إسرائيل) ويشكل الدعم الإيراني أساساً لا غنى عنه للسيطرة على قاعدته الشعبية. فإذا فقد فائدته الوظيفية بالنسبة لإيران، فقد هذا الدعم، وبالتزامه باتفاق وقف إطلاق النار يفقد مبررات وجوده بصفة «مقاومة». كل هذا من شأنه أن يفقد الحزب هويته ووظيفته معاً، لتنفتح احتمالات ظهور تمثيلات سياسية جديدة لقاعدته الاجتماعية ملتزمة بإطار الدولة اللبنانية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع وحدها.
كما أن الانتهاء المحتمل لمغامرة الحزب في سوريا، بعدما أنفق الكثير من موارده المالية والبشرية والاعتبارية في الصراع الداخلي السوري طوال أكثر من عقد، سيزيد من تحجيمه وإفقاده دوره الوظيفي الإقليمي. الواقع أن حزب الله قد ربط مصيره بصورة غير قابلة للفكاك بمصير إيران المهدد بالتحجيم في المرحلة المقبلة.
إيران تبذل ما في وسعها لملاقاة الرئيس الأمريكي القادم بليونة دبلوماسية على أمل امتصاص ما قد يسلكه تجاهها. نتنياهو يريد أن يدمر أكبر قدر ممكن من شروط الحياة في غزة قبل أن يضطر لإيقاف حمام الدم. وحزب الله يريد تسويق نكتة سمجة جديدة تحت عنوان الصمود والانتصار.