“..وأشار رئيس المكتب الإعلامي والسياسي لقبيلة بني خالد، الدكتور محمد العلي، إلى أن الملتقى يأتي استكمالاً للمؤتمرات السابقة التي جرت على هذه الأرض الطيبة، لتجتمع العشائر اليوم تعبيراً عن رفض الاحتلال الموجود في بعض الأراضي السورية”.
الاقتباس أعلاه ليس اجتزاءً على سبيل السخرية، ومن المؤكد أن منصب “رئيس المكتب الإعلامي والسياسي لقبيلة بني خالد” ليس اختراعاً من وكالة أنباء الأسد “سانا”، التي أوردت التصريح ضمن تغطيتها لـ”مؤتمر القبائل والعشائر السورية والنخب الوطنية الخامس”. المؤتمر انعقد قبل ثلاثة أيام في الملعب البلدي في مدينة حمص، وحضره (حسب “سانا”) 15 ألف مشارك من العشائر والقبائل والنخب الوطنية!
المجتمعون كانوا بالطبع تحت رعاية رسمية، ومحافظ حمص ألقى كلمة في مؤتمرهم، أكّد فيها على رفضهم المطلق وجود الاحتلال وأدواته على الأراضي السورية وتمسكهم بوحدة الوطن ودعم الجيش… معرباً عن ثقته بأن الاجتماع سيحقق الغاية التي عقد من أجلها، في التأكيد على الوحدة الوطنية الكاملة، ورفض كل أشكال التقسيم. أما الشيخ خالد الجويد العكيدي، من قبيلة العويدات، فقد صرّح لجريدة “الوطن”، بأن القبائل والعشائر العربية تجتمع لتؤكد وحدة كلمتها ودعمها للجيش العربي السوري في مواجهة الإرهاب وداعميه، منوهاً بأن القبائل والعشائر السورية ترفض أي وجود لأي أجنبي على أرض سورية. مضيفاً: كما ندين كل الأعمال الإجرامية التي تمارسها ميليشيا “قسد”، ولاسيما سرقة الثروات والخيرات السورية. وأكد على أن الجزيرة السورية ستعود قريباً لوضعها الطبيعي تحت سلطة الدولة السورية، مشدداً على أن أبناء العشائر سيدافعون عن سوريا حتى دحر الغزاة وأعوانهم من كل شبر في سوريا.
تولّت جريدة الوطن، كما يحدث في الكثير من الأحيان، التصريحَ بما لم تصرّح به وكالة سانا. فبيت القصيد في المؤتمر هو توجيه رسالة خاصة بقوات “قسد”، والقول إن استخدام العشائر ضدها لن يتوقف، رغم أن “قسد” كسبت حتى الآن جولات من المعارك التي افتعلتها العشائر شرق الفرات. أما البهرجة في توجيه الرسالة، عبر ملتقى حضره الآلاف، فهي على الأرجح “بادرة حسن نية” تجاه أنقرة، وضمن أجواء التطبيع المتعثّرة حتى الآن.
يريد الأسد، من خلال هذا المؤتمر، القول لتركيا إنه يمسك جيداً بالعشائر المستعدّة لقتال قسد، متى فقدت الأخيرة الغطاء العسكري الأميركي. وربما يريد الإيحاء أيضاً بأنه قادر على استخدام العشائر حتى أثناء الوجود العسكري الأميركي، وهناك تجربة قريبة لثورة العشائر ضد قسد، حيث أشارت أغلب الظنون إلى أنها كانت مدفوعة بدعم من الأسد وإيران، كلٌّ منهما لحساباته. فالأسد كان يريد إثبات قوته أمام القوات الكردية، في حين أرادت طهران توجيه رسالة للقوات الأميركية المسيطرة في المنطقة رغم قلة عددها.
الإدارة الذاتية الكردية غير بعيدة بدورها عن الاستثمار في العشائر، وهي نظرت وتنظر إلى العرب الخاضعين لسيطرتها على أنهم منضوون في عشائرهم، ويكفي تالياً إرضاء شيوخهم بالمناصب أو المكاسب. وفي العديد من مناطق سيطرتها، ورثت قسد أولئك الشيوخ الذين عمل تنظيم داعش من قبل على استمالتهم، ثم لم يفقدوا مكانتهم في السلطة الجديدة بعد دحر داعش. بل إن ثبات مكانة شيوخ العشائر مع توالي السلطات صار يُنظر إليه من المسلّمات، بحيث لا تُلام سلطات الأمر الواقع إذا رضخت لما يبدو أنه أيضاً أمر واقع.
لكنّ ما يُساق لتبرير سلوكيات سلطات الأمر الواقع يُفترض ألا يستفيد منه الأسد، الذي يزعم أنه وحده الذي يحوز الشرعية، فهو تحديداً ورث مزاعم البعث ومزاعم أبيه التحديثية، ولطالما كان منها القضاء على العشائرية بوصفها مظهراً من مظاهر التخلف. ومن المعلوم، بخلاف تلك المزاعم، أن مشيخات العشائر شهدت انتعاشاً في ظل حكم الأسد الأب ثم وريثه، ونالت حصصاً معلومة من كعكة السلطة في مجلس الشعب وسواه، وللبعض منها شراكات مع السلطة تعدّت ما هو ظاهر إلى الشراكة في تهريب المخدرات، قبل عقود من تحوّل تهريب الكبتاغون إلى تجارة شبه رسمية.
في الجزيرة السورية تحديداً، كان الاستثمار الأكبر في مشيخات العشائر من أجل استخدامها ضد الأكراد، ذلك قبل الثورة وحين لم تكن هناك إدارة ذاتية أو قوات حماية كرديتين. وقد رعت السلطة دائماً الاقتتالَ العربي-الكردي الذي يأخذ طابعاً قومياً من حيث الظاهر، ولا تغيب إطلاقاً عن باطنه المصالح الشخصية الضيقة المتعلقة بالسيطرة على المزيد من الأراضي الزراعية، أو نيل عقود حراسة آبار النفط. أي أن رعاية مؤتمر العشائر الأخير هي استئناف لنهج محدد واضح الهدف فيما يخص منطقة الجزيرة. وهو نهج يرضي أنقرة بقدر ما يؤدي تحالف الأسد مع العشائر إلى لجم أكراد الجزيرة، أو “تحييدهم” وفق تعبير عسكري صار دارجاً.
يبالغ إعلام الأسد في حجم العشائر، من خلال الإعلان عن 15 ألف شخص حضروا مؤتمرهم في حمص. وبذلك يريد الترويج لكونه يحظى بدعم الأغلبية في منطقة الجزيرة “المحتلّة” أميركياً وكردياً. إلا أن المبالغة ليست حكراً عليه، فجميع سلطات الأمر الواقع بالغت في حجم وتأثير العشائر عندما استقطبت شيخاً من شيوخها، ولا يندر أن تساهم هذه السلطات بالنزاع ضمن العشيرة الواحدة على الزعامة. إذ تستقطب كلّ منها طامحاً إلى الاستئثار بمغانم المشيخة.
لقد شكّل معظم الشيوخ في السنوات الأخيرة ميليشيات خاصة بهم، وإن لم يبرهنوا بميليشياتهم على عصبيات أقوى من تلك التي للميليشيات غير العشائرية. أي أن الدافع العشائري لا يتمتع بالأولوية كما يُراد تصويره. وقادة الميليشيات من الشيوخ لم يختلف حالهم عن حال أي قائد ميليشيات آخر من أمراء الحرب الصغار. والعشائر برمتها، وفي كافة أماكن وجودها، لم تثبت ولو لمرة واحدة أنها بيضة القبّان في إنتاج سلطات الأمر الواقع الجديدة، بل كانت مجرد أداة من أدوات تلك السلطات.
يبقى من المفهوم أن الأسد يريد تضخيم الحجم العشائري المؤيد له. فهكذا يظهر كأنه سحب الورقة ذاتها من قسد، التي نظّمت مؤتمراً للعشائر في أيار الماضي، وفي الوقت نفسه يبيع كذبة لأنقرة في سياق محاولات التطبيع بين الطرفين. المعارضة أيضاً لم تكن خارج الاستثمار نفسه، فـ”مجلس القبائل والعشائر السورية” ممثّل في ائتلاف المعارضة بخمسة مقاعد. واجتماع أطراف الصراع السوري على التودد إلى العشائر كشف “من دون قصد” عن تهافت الظنون المتعلقة بقوة المكون العشائري، الذي بقي على تفككه وركاكته، أي كما يجب لعصبية فات زمنها، فلا يكون من وظيفة حقيقية له سوى الدلالة على بؤس الذين يستثمرون فيه.
عذراً التعليقات مغلقة