يولد الإنسان وتولد حكايته معه، فالإنسان كائن حكّاء بطبيعته، وإنّ بكاءه الأول هو حكايته الأولى وبداية لسرديته التي تتلمّس منبرها على ثدي المعاني.
في الحقيقة كلّ شيء في هذا الوجود له حكايته، وإذا بدت الحكايا في الأرض محدودة إحصائياً، فهي لا نهائية في هذا الكون، لكن ما يميّز حكايا الإنسان أنّها عبارة عن حكايا حيّة ونابضة، نتقاطع جميعنا معها ونتشابه مع الكثير من حبكاتها، إنّها حكايا من لحم ودم ومشاعر وأفكار وعقائد وأمنيات وذروات درامية حاسمة قد تنتهي بالموت أو تبدأ به.
حينما نتحدث عن شخص ما مدحاً أو ذماً فنحن نتحدث عن حكاية نهره في غابة المعاني، يحدث دوماً أن تسيطر حكايا بعض الأشخاص على المجال العام وعلى حكايا الآخرين، ليس لأنّها قرعت أو لم تقرع جدران الكهف أو الخزان كما في رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني، وهذا وحده سببٌ كافٍ لجعلها حكاية، بل لأنّها عرفت كيف تقرع جدران الخزان، كيف يكون هذا القرع ذا محتوى مثير يفرض نفسه على مسامع الآخرين وحكاياتهم؟
يأخذ القرع هنا أنماطاً كثيرة هي ذاتها أنماط القدرة على التعبير والهيمنة على الحكاية العمومية أو حجز موقعٍ أو أسطرٍ فيها.. القرع بموسيقى أخّاذة أو بصوت عذب مغنّى أو بمحتوى لغوي مدهش، القرع بالسلاح أو بامتلاك المعرفة، بالكلام أو بالسكين، بإشعال فتيل الغرائز أو بإطفائها.. بالجمال أو البشاعة، بالمرض والدواء أو الضعف، بسيف المنطق والحق والمعنى.
حكايانا الجماعية والفردية في هذا الملتقى بين الشرق والغرب كثيرة ومتباينة ومتناقضة، (قطيعية ومقدسة)، متداخلة في السياق ومتشعبة في الزمان والمكان، وأصحاب الحكايا الكبرى يريدون قطع ألسنتنا وآيادينا وكل ما من شأنه قرع جدران الخزان كي لا نشوش على سرديتهم ودناءتهم في احتكار فضاءات المعنى.
لسوريا -وطني المقتول- حكاياها المثيرة والمتزاحمة منذ فجر الحكاية الأولى وأسئلة العقل الأول، كل الحكايا والسرديات أرادت فرض أجوبتها وإرادتها وراياتها، ألوانها وحروفها، لكنتها وتفسيراتها على متن حكاية سوريا والسوريين، معقل الحرف الأول، وبيت الميجانا الأول، ومسرح قابيل الأول، لكن في استثناء من حركة التاريخ وميزان القوى القائم على العين والمخرز، خطّت حكاية جريئة وشجاعة واستثنائية أولى كلماتها وصرخاتها، وعبّرت عن نفسها على يد شجعان من نوع استثنائي، طرقت جدران الخزان في فجر الخامس عشر من آذار من العام 2011 فاختل توازن العالم.
خطّت عنواناً صلباً على المتن حين تمسرحها أمام وزارة الداخلية وفي أسواق دمشق، تمثل العنوان بقيم إنسانية مثالية وشاملة تصلح نداءً للبشرية، هي العدالة والحرية والكرامة، كان ذلك قبل أن يجهد قراصنة الأحلام على إفراغ الاستثناء من المعنى، فصار المتن خارجاً من أسراب الكلام، تجسد بمقابر جماعية ومعتقلات ومخيمات وأمراء حرب ما بين حفرة الهوتة وحفرة التضامن وآبار جبل الزاوية، كان قدر هذه الحكاية وفرسانها الذين حلموا بنهاية سعيدة أن تفجر صندوق باندورا للدراما المأساوية التي تكتنزها هذه الأرض السورية في كل شبر من جسدها المدمّى.
فصرنا تحت وطأة داعش والميليشيات الشيعية الشبيهة التي تريد فرض حكايتها على الآخرين بقوة السيف وبغدر الخنجر وبصلافة الشعارات وفجور القتل والكراهية، مثل الحكاية الأسدية المتهافتة التي عنوانها الأسد أو نحرق البلد، ونصها دم وأشلاء وتعذيب وتهجير.
كذلك انسلّت حكايا من وهم الأسطورة لانفصاليين ومناطقيين وطائفيين وقبليين وأمراء حرب وقطاع طرق وغيرهم من سكان الكهوف المعزولة بالخرافة والأيدولوجيا وثورة هي حتى مطلع الدولار، هكذا حتى تشظت حكايا الزمكان السوري لملايين المآسي التراجيدية، وإلى حكاية ذاتية لكل مغامر وقح يريد منا أن نكون قراء مطيعين لتقلبات سيالاته العصبية وتفاعلات الفضة في جيبه والكيمياء في دماغه، ولرغبات أجهزة المخابرات العالمية على هاتفه.
إنّها الحرب إذاً، ملعب المنافسة الواسع للاستحواذ على المعنى في المجال السوري العام المغدور والذي تتكرر فيه حكاية يهوذا والمسيح، علي ومعاوية، قابيل وهابيل، ليلى والذئب في الزمان وفي المكان. للاستحواذ على الذاكرة السورية والحكاية السورية والنفط السوري.
هكذا وبإرادة من لعنة الجغرافيا وجدت حكايتي الشخصية جداً وسط حروب الحكايا وصدام السرديات وصراع الحضارات على فالق من المعاني المتناقضة، كان السرد خاضعاً لفقه المناكفات والتهديد والمطاردة، كل حكّاء يريد أن يقول أن حكايته هي الحكاية المقدسة، وحكاية الأبد، حاولت تحصين حكايتي، دافعت عنها في بيئة تهيمن عليها ذهنية التحزب والانتماء للسفاحين والحكايا العابرة، وذهنية التحريم والاستباحة، طالما وقعتُ ولكني اعتليت منبر الكلام وحققتُ الاتّزان عند المنعطفات وعلى منصات الإعدام والاغتيال والنميمة، متُّ كثيرا ثم قمتُ لأروي، أينما صوبوا طعنات كلامهم في بوحي سال دمي كالمعنى، ونهضت.. لأكتب بوحاً على متن حرب السرديات وصراع الحكايا، بوح من خطوط المواجهة الأولى مع الجريمة والدم والقيح وتزوير المعاني، من الخط الأول مع صور قيصر وحمامات غسيل الدماغ ومطابخ تدجين القطيع، بوح من شجن ونشيج على مقام راحة الأرواح أرسله للقارئ العزيز -أمانة- على منقار تويتر (X).
Sorry Comments are closed