الجَذر المنهجي للاجتماع السياسي السوري الراهن هو “كُن مثلي”، أو “اعمل مثلي لكي ألتقي معك ضد من لا يشبهنا”.
لا يُنتِج هذا الجذر المنهجي اجتماعًا سياسيًا تحرريًا وتأسيسيًا، بل يعيد إنتاج العصبيات، والنعرات القديمة، بصورٍ جديدة، من ثم يعيد إنتاج الحرب. وأهم ما تحاول وثيقة المناطق الثلاث أن تفعله هو تغيير منهجية “اعمل مثلي”، إلى منهجية “اعمل معي”، يعني وحدة اتجاه العمل، وليس وحدة التصورات والعقائد والمقاربات بصورةٍ تصهر البشر، وتسحق فردانيتهم؛ أي الانتقال من المِثليَّة السياسية الشاذة عقلانيًا ومنطقيًا التي ولد بها النظام السوري، وأتقنها، وطوَّرها، وروَّج لها، وتسبب بعدوى كثيرٍ من معارضيه بها؛ إلى المَعيَّة التأسيسية الصحيَّة، والمنطقيَّة سياسيًا وأخلاقيًا.
يؤدي مثل هذا التغيير، إن كُتب له النجاح، إلى سُكنى سوريا سياسيًا، وإلى الانتقال من حالة الإنسان المُستباح إلى حالة المواطن، مرورًا بإسقاط “إنسان البرميل” من حياتنا إلى الأبد بالضرورة، ومن ثم مناهضة “المثلية السياسية” التي تعني غياب القدرة على الفعل السياسي المشترك إلا مع من يشبهنا (من طائفتنا، قبيلتنا، حزبنا، منطقتنا، عرقنا، جماعتنا الأيديولوجية نفسها، إلى ما هنالك)، ونناقش الأمر أكثر في سياق الآتي.
في عام 1980، قدّمَ الفيلسوف جيل دولوز، والمحلل النفسي فيليكس غاتاري، في كتابهما المشترك “ألف هضبة” (A Thousand Plateaus)، إطارًا نظريًا يبدو أنه مهمٌ في هذه اللحظات للتفكير سوريًا، وصالحًا لتكوين مقاربة مفيدة للمستقبل. يمكن تكثيف هذا الإطار النظري العلمي بأن الحرب في الدولة الشمولية تعني عسكرة المجتمع المدني، والاقتصاد، وتعبئة السكان.
وهكذا تصبح الدولة في نظامٍ شمولي جدًا، مثل نظام الأسد، وسيلةً لتسريع وتيرة عمليات الهدم وصولًا إلى اندثار الدولة ذاتها؛ أي إن هذا النوع من الأنظمة يتضمن مُكونًا يعمل على تدميره ذاتيًا، وتمام الدولة الشمولية يتمثل في تحققها داخل “دولة انتحارية”. ويمكن بالاستناد إلى ذلك أن نقول إن آلة الحرب في سوريا تحررت من أي أهدافٍ سياسية، وهذا بطبيعة الحال هو الوضع الحربي في سوريا بدقة هذه الأيام: استولت آلة الحرب على الدولة السياسية التي كان يمتلكها السوريون، وصار الأسد منذ 1970 مالك الجيش والدولة والمجتمع، بصورةٍ كثفتها لاحقًا عبارة “سوريا الأسد” التافهة، بما تعنيه من خصخصة ملكية الدولة، ومثليَّة المنهج السياسي.
وإذا استولت آلة الحرب على الدولة في مرحلةٍ ما، لا يبقى بحسب دولوز وغاتاري أي مخرجٍ سوى انتحار الدولة بنفسها. ويبدو أن كلَّ الذي نشهده في هذا الزمان هو سلسلة عمليات انتحار الدولة السورية المخطوفة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، باستثناء الذين يحملون السلاح للدفاع عن النفس فحسب، لا يبدو أن ظاهرة عسكرة الثورة، ومخلفاتها الفصائلية في سوريا قد غيَّرت شيئًا في هذه القاعدة؛ فلا تزال هذه القوى تحارب كل من لا يشبهها من أن أجل استمرار الحرب، ومكاسبها المعنوية والمادية، وتستخدم لذلك أدوات شبيهة بأدوات الحرب المثليّة عند الأسد، وليس البارود أقواها بطبيعة الحال، بل الكذب، والتخوين، وتغييب الضمير، والإجرام، والظلم، والتهجير، وإلى ما هنالك.
السياسي السوري الوطني اليوم هو الذي لا يدافع عن أية إجابة جاهزة حول مستقبلنا، وذواتنا السياسية المشتركة، وطموحنا أن نكون شعبًا واحدًا؛ فالشعب ليس ماهية ثابتة، بل واقعة مفتوحة على جملة تجارب السوريين وطرائق بناء خياراتهم في سوريا وفي العالم من دون وصاية.
نعم، الدولة في سوريا انتحرت، ولم يبقَ للسياسة شيئ، إلا أن تواصل الحرب! وأمام هذا الواقع، نواجه كلُّنا سؤالًا مهمًا ومُلِّحًا: كيف تكون السياسية من دون دولة، أي كيف نسكن سوريا سياسيًا بعد أن انتحرت الدولة؟ كيف نسكنها سياسيًا مع عصابة كبتاغون يقودها “إنسان البرميل” بإمكاناتِ الدولة المُستولى عليها، وثروات النهب، وتواطئ “دول العالم المتحضر”، ومع ظاهرات معقدة مثل: الجولاني ومنتفعاته، وقسد، والفصائل، والمرتزقة، والذهنيات الطائفية والأيديولوجية والمحلية، وحرب الكل ضد الكل؟ لا أحد لديه وصفة سحرية للإجابة المنتهية والتامة عن هذا السؤال، إلا على سبيل الوهم، أو الحماقة، أو الاستعلاء الذي تتحفنا به النخبة السياسية المتعالية على الجماهير، والتي ترى في تلقائية العاديين مَرضًا؛ ويا ليت هؤلاء “النخبويين” نجحوا في تقديم أجوبةٍ شافيةٍ مثلما ادّعوا ولا يزالون يدَّعون؛ كانوا وفَّروا علينا الآن سماجة آرائهم التي ترى البشر بوصفهم قاصرين عن اختراع معنى لوجودهم السياسي من دون أن يأخذ بيدهم “النخبوي” إلى بر الأمان. السياسي السوري الوطني اليوم هو الذي لا يدافع عن أية إجابة جاهزة حول مستقبلنا، وذواتنا السياسية المشتركة، وطموحنا أن نكون شعبًا واحدًا؛ فالشعب ليس ماهية ثابتة، بل واقعة مفتوحة على جملة تجارب السوريين وطرائق بناء خياراتهم في سوريا وفي العالم من دون وصاية، وبالتحديد من دون وصاية النخب السياسية من المعارضة التي أخفقت وراكمت الإخفاق. وعليه قد نقول إن سُكنى سوريا سياسيًا يتكثَّف اليوم في التنسيق المُتسلح بالصبر والتَفَهُم وصولًا إلى إبداع عقلٍ جماعي سوري قادرٍ على بناء الثقة، والتجسير، والتضامن، ومراكمة رأس مالٍ اجتماعي وطني يجعل الديمقراطية تعمل، ويحتفي بالحياة، ويعيد ملكية السياسة إلى السوريين أصحاب الثورة والثروة ومشروع الكرامة. هذه هي الطريقة المُمكنة لتحويل سوريا من حَلبة إلى وطنٍ فيه دولة، ومجتمع سياسي. نحن الآن نسكن سوريا مثليَّاً: قبائليًا، وطائفيًا، وإثنيًا، وأيديولوجيًا، وأخيرًا فصائليًا؛ وهذه السُكنى لا تجعل من سوريا وطنًا، بل تجعل منها حلبة لـ “حرب الكل ضد الكل”.
تصير سوريا وطنًا إذا سكنها السوريون سياسيًا، يعني إذا أنجزوا العبور من وضعية الإنسان المستباح (Homo Sacer) إلى وضعية المواطن، ويومها تصير سوريا خيارًا مُمكنًا للعيش. وقد يبدو أن كثيرًا من السوريين قد أنجزوا هذا التغيير، ولكن ليس بوساطة السياسة، بل بوساطة البحر؛ فكان أهم ما في الوصول إلى سواحل اليونان أو إيطاليا، إمكانية اختيار وطن من أوطان الاتحاد الأوروبي، ثم ركوب القطارات وصولًا إليه، بما يعني هذا الوصول من انتقالٍ من وضعية الإنسان المستباح إلى وضعية الإنسان، حيث لا يُعامل المرء بوصفه قاصرًا، أو مريضًا لا يُلائم السياسة ويحتاج دائمًا إلى وصاية “النخبة العظيمة”، وهكذا يصبح انتقالُهُ من وضعية الإنسان إلى وضعية المواطن مُمكنًا، حيث يعتاد الاختلاف بوصفه شيئًا ضروريًا، ويثمن التعددية ويعيشها، ويصير عضوًا في جماعة سياسية تعددية تسمى شعبًا، تترجم فكرةَ الأمة (Nation) إلى السياسة؛ أي إنه يكف عن أن يكون مثليًا في السياسة، إلا إذا أصر على ذلك.
صار لزامًا على من ظلوا أن يفكروا كيف يسكنون سوريا سياسيًا لينتقلوا من وضعية الإنسان المستباح إلى وضعية المواطن من دون ركوب البحر، ولزامًا أخلاقيًا على من رحل أن يدعمهم حتى آخر رمق.
ماذا عن الذين لم يمتلكوا ترف اختيار وطنٍ جديد؟ لا أحد بطبيعة الحال يختار طواعيةً وطنًا مُهدَّمًا مثل سوريا هذه الأيام، إلا على سبيل العاطفة المُفرطة والنوستالجيا الحميمية. هؤلاء كلهم، وهم أكثرية السوريين، ليس أمامهم إلا أن يجعلوا سوريا وطنًا مُلائمًا لفعل الاختيار، وصالحًا للعيش فيه سياسيًا، ومن ثم صون الحياة فيه بيولوجيًا؛ ففكرة اختيار الوطن “حبًا وطواعية”، و”سرًا وعلانية”، وإلى ما هناك، على طريقة علي فودة الذي غنّاه أيديولوجيًا مارسيل خليفة، لم تعد تصلح لإقناع أحد.
صار لزامًا على من ظلوا أن يفكروا كيف يسكنون سوريا سياسيًا لينتقلوا من وضعية الإنسان المستباح إلى وضعية المواطن من دون ركوب البحر، ولزامًا أخلاقيًا على من رحل أن يدعمهم حتى آخر رمق.
تطرح وثيقة المناطق الثلاث اقتراحًا لفتح هذا النقاش القابل للتطوير بصورة مشتركة تؤدي إلى خلق حالة تأسيسية، تكون مقدمةً لابتكار الوطن، والانتقال من حالة الحَلبة إلى حالة الوطن، إذا كتب لها النجاح بطبيعة الحال: أي من حالة الإنسان المستباح إلى حالة الإنسان المؤهل للاختيار. وفيها خمس نقاطٍ تطرح بمجملها عملًا يستقوي بالذات السورية التعددية، ومقدمةً لبناء الأهلية اللازمة لخوض تحدي العمل السياسي الثوري من دون دولة، ومن ثم التمهيد لسُكنى سوريا سياسيًا.
ويمكن تكثيفها كالآتي: أولًا، تأميم السياسة، لتعود ملكًا للشعب السوري، لتعود عمومية كما ينبغي أن تكون، وليست مثلية. ويعني ذلك أنَّ “تسليمَ القرار العمومي السوري لأي قوةٍ أجنبيَّةٍ، أو دولةٍ أخرى، أو ميليشيا، أو جماعاتٍ حزبيةٍ، أو عصبيةٍ، مصادرةٌ لقرار السوريين، ويجب أن يتوقف؛ سواء صدر من الطغمة المجرمة التي تحكم دمشق، أو ممَّن تشبَّه بها من المعارضة.
وهذه ترجمة لشعار الثورة “سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، ومناهضة تملُّك المثليين السياسيين للشأن العمومي. وثانيًا، الاحتفاء بالحياة وصونها، والصيانة عكس الابتذال، ويعني ذلك أن تكون حياة السوري وكرامته في مركز أهداف السياسة السورية الجديدة.
وثالثًا، رفض الانطواء المحلي بما يعني من بناء ذواتٍ سياسية مثليّة تساوي بين الذات والفضيلة فلا تجد حرجًا في أن تقول دائمًا: “نحن الأفضل”، و”نحن نمتلك الحقيقة المطلقة”!
الوحدة السياسية لا تكون إلا بالكثرة، بدلًا من صهر البشر بالقوة والترويج للمثلية السياسية، وهذه مقاربة تمهد للانتقال من ثقافة “اعمل مثلي” الموجودة بقوة اليوم، إلى ثقافة “اعمل معي”
ورابعًا، التنسيق والعمل المشترك بوصفه طريقًا لبناء شبكات الثقة العابرة للطائفة والقبيلة والعرق والمنطقة، وبناء رأس المال الاجتماعي اللازم للتغيير، واللازم لجعل الديمقراطية في سوريا تعمل بدلًا من جعلها تقول فحسب.
وخامسًا: الوحدة السياسية لا تكون إلا بالكثرة، بدلًا من صهر البشر بالقوة والترويج للمثلية السياسية، وهذه مقاربة تمهد للانتقال من ثقافة “اعمل مثلي” الموجودة بقوة اليوم، إلى ثقافة “اعمل معي”: أي من وحدة البشر على أُسسٍ مثليّة، إلى “وحدة اتجاه العمل السياسي في وقتٍ معين” فحسب، والاعتداد بالتعددية بوصفها مصدر قوة سياسي ما دامت أقوى ما نملك في مواجهة عصابات الكبتاغون التي يديرها “إنسان البرميل” بإمكانات دولة.
وبطبيعة الحال، مثل هذا النمط من التفكير لا يمكن أن يدافع عن أي إجابات جاهزة مثل “سوريا إسلامية”، أو “علمانية”، أو “مركزية”، أو “لا مركزية”، وإلى ما هنالك، بل يقول: ينبغي أن نسكن سوريا سياسيًا، ونجعل منها وطنًا، ثم، بعد ذلك، نكون مؤهلين لهذا النقاش بصورة سلميَّة وعقلانية؛ فالحلبات لا تصلح إلا للقتال، لكن الأوطان هي الوسط الأمثل للحوار البنَّاء.
عذراً التعليقات مغلقة