لم يتوقف منذ يوم الثلاثاء تداول الأقاويل المتعلقة بأسماء الأسد، وكانت صفحة “رئاسة الجمهورية العربية السورية” على فيسبوك قد نشرت بياناً ينصّ على احتجابها عن الظهور “كجزء من خطة العلاج” بداعي إصابتها بسرطان الدم-لوكيميا. وبعد الإعلان انتعشت على وسائل التواصل الاجتماعي التكهنات حول ما قد يكون مخفياً وراءه، خاصة أن السوريين لم يعتادوا من مصدر الخبر شفافيةً في التعاطي معهم أو مع كواليس السلطة.
ثمة من يشكّك في قصة المرض، وصولاً إلى اعتبار الإعلان عنه نوعاً من استجلاب التعاطف الشعبي مع “السيدة الأولى”، ومع زوجها ضمناً. وثمة من رأوا في الأمر مسرحية من نوع مغاير تماماً، والهدف منها إقصاء أسماء الأسد بعدما تضخمت سطوتها وسيطرتها عن المسموح به، بل قد وصل بعض أصحاب هذا الافتراض إلى عدم استبعاد أن تكون قد صُفّيت جسدياً، وهناك من سارع إلى فبركة نعوة باسمها!
ما تتفق عليه الأقاويل هو الإعلاء من شأن المعنيّة بحيث يكون للإعلان عن مرضها دلالات سلطوية، وفي الاتفاق على ذلك استئناف للأضواء التي سُلِّطت عليها في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ انتهاء العمليات العسكرية الكبرى وعودة الحياة شبه الطبيعية إلى مناطق سيطرة الأسد. والحديث هنا عن إبراز دور سلطوي لها يتعدّى الدور التقليدي لـ”السيدة الأولى”، مع التنويه بأن أنيسة مخلوف “زوجة حافظ الأسد” بقيت بعيدة عن الإعلام طوال عقود، حتى أن كثرة ظهور أسماء الأخرس منذ اقترنت ببشار الأسد بدت كنوع من تمايز الأخير عن أبيه لصالح ترويج صورته حينذاك كرئيس عصري.
وكانت السنوات الأخيرة التي تدهورت فيها الأوضاع المعيشية بشدّة قد شهدت انتقادات غير مسبوقة من قبَل غاضبين في الساحل السوري، وكان لافتاً إلقاء أصحابها بالمسؤولية على أسماء الأخرس-الأسد أسوة بزوجها، أو حتى تحميلها مسؤولية تفوق مسؤوليته. ولاقت فرضية الزوجة المتحكّمة بقسط كبير من السلطة رواجاً لدى شرائح سورية عديدة ولاعتبارات مختلفة، منها النيل من الزوج بتصويره متهافتاً وركيكاً حتى ضمن الدائرة الضيقة للسلطة، ومنها رغبة البعض “الواعية أو غير الواعية” في تبرئته من المسؤولية برميها على الزوجة “الشريرة”.
الحسابات الطائفية كانت دائماً موجودة، فالظن الشائع بين السوريين أن الأسد الأب كان يريد لأبنائه الزواج من نساء سُنّيّات. هذا لم يغب عن التكهنات التي أحاطت بالدور المتخيَّل لأسماء الأخرس، فنُظر إليها في سنوات حكم زوجها الأولى كمؤشّر على انفتاحه على الأغلبية السنية، وعندما اهتزت قوة عرشه وصار مهدَّداً جدياً بالسقوط راجت أقاويل عن حلّ وسط يتنحى بموجبه ويكون لزوجته دور في المرحلة الانتقالية. وحتى النظر إليها أخيراً كقطب من أقطاب السلطة لا يخلو من المغزى نفسه، فوجودها تجسيد لما يراه البعض شراكة اقتصادية بين الأسد والسُنّة بدأت مبكراً بالشراكة بين الأسد الأب وبعض التجار الدمشقيين.
قيل الكثير في السنوات الأخيرة عن استحواذ أسماء الأسد على قطاعات مربحة، وعن فرضها أتاوات على كبار ومتوسطي التجار والصناعيين مع إنشائها مكتباً في القصر مخصصاً لذلك. قيل الكثير أيضاً عن واجهات لنشاطها “الاقتصادي”، منها مثلاً يسار إبراهيم الذي أشيع مؤخراً أنه تعرّض لحادثة تسميم إثر إقصائه عن كافة مهامه السابقة، وهو ما رآه البعض مؤشّراً أيضاً على أن رواية مرضها هي في سياق الإجهاز على “إمبراطوريتها”. يُضاف إلى ما سبق مشاركة أقرباء لها، أو استفادتهم من مركزها، مثل شقيقها فراس الأخرس، ومهند الدباغ من أبناء عمومتها، وقد وضعهما الاتحاد الأوروبي في مستهل العام على لائحة عقوباته التي تضمنت أيضاً يسار إبراهيم والعديد من الشخصيات التي وصفها بيان الاتحاد بأنها واجهات اقتصادية للأسد وزوجته.
بالمقارنة، كان دور أنيسة مخلوف يفوق من حيث تأثيره الدور المنسوب إلى أسماء الأخرس، بخلاف بقاء الأولى بعيداً عن الإعلام. فشقيقها محمد مخلوف لعب دوراً مهماً في الإشراف على ترتيبات انتقال السلطة من الأسد الأب إلى وريثه، والأهم أنه وعدنان مخلوف “ابن عمها” توليا تقوية الحرس الجمهوري ليصبح الميليشيا الأولى للسلطة بعد حلّ سرايا الدفاع التي كان يتزعمها رفعت الأسد. ومن المعلوم أن رامي محمد مخلوف تولى الإمبراطورية المالية لأبناء عمته، بينما كان شقيقه يتدرج في سلم المخابرات. هذا رأس هرم قرابات أنيسة مخلوف المتشعبة، وبموجبها تسلّم العديد منهم مناصب عسكرية ومخابراتية ليست في متناول آل الأخرس ولن تكون.
لعل المقارنة السريعة السابقة كافية لتوضيح المكانة الفعلية لأسماء الأخرس ضمن سلطة هي أولاً وأخيراً تعتمد على المخابرات والعسكر، وهذا لا ينفي بالطبع الهالة الإعلامية التي أُحيطت بها فأوحت بدور مستقل يتجاوز كونها “السيدة الأولى”. ومن الملاحظ أن التضخيم من نفوذها المزعوم أتى مع تواري ما كان يُنسب إلى ماهر الأسد من ثقل في مواجهة شقيقه، بل لم يقصّر إعلاميون محسوبون على المعارضة في الترويج لخصومة بين ماهر وأسماء التي استطاعت تحجيمه بموجب هذا التصور الذي لقي رواجاً أيضاً لدى شرائح من الموالاة الناقمة، ولا تريد توجيه نقمتها إلى آل الأسد.
حسب التصور الرائج، احتلت أسماء الأخرس مكان ماهر الأسد بوصفها قطباً للسلطة، وكان الكثير مما يُنسب إليه هو في الأصل استئناف لما كان يُنسب إلى عمه رفعت إلى جوار شقيقه حافظ، أو في مواجهته لاحقاً. في الحصيلة تبدو كما لو أنها رفعت الأسد، وهذا التشبيه ينسجم تماماً مع الأقاويل الحالية عن إقصائها عبر التلفيق المزعوم لمرضها، أي أنها تضخمّت جداً حتى حانت لحظة الإقصاء بموجب السيناريو القديم بين رفعت وحافظ، وهو السيناريو الوحيد للتنافس على السلطة منذ انقلاب حافظ الأسد.
لا حاجة لإجراء مقارنة ثانية توضّح التباين الشديد في المكانة بين أسماء الأخرس ورفعت الأسد، ففي أحسن الأحوال لا يساعدها كونها امرأة في أن تكون قطباً ضمن الحلقة الضيقة جداً للسلطة، وحتى الحسابات الطائفية المعدَّة للاستهلاك الإعلامي هي بعيدة عن حسابات تلك الحلقة. أما من حيث الدور، فقد أدّت في السنوات الأخيرة دوراً قد يصبّ لصالح زوجها إذ اقترن اسمها أكثر منه بمافيا الفساد الجديدة، ما يذكِّر بالصورة القديمة عن فساد رفعت مع المقارنة المضمرة بشقيقه حافظ في حقبة خلت. من هذه الناحية قد يستفيد زوجها إذ يعود قادراً وممسكاً بخيوط السلطة بخلاف الذين كانوا يرون في صعودها إثباتاً للعكس، ويكون قد أرضى أولئك الذين يرون فيها شيطان السلطة الفاسد. إلا أن صلاحية ذلك مؤقتة وعابرة، وحتى يثبت العكس؛ أفضل ما تصلح له القصة المتداولة عن صعود أسماء الأخرس وإقصائها هو إدخال شيء من الدراما “اللطيفة” إلى سيرة آل الأسد.
عذراً التعليقات مغلقة