في الحادي والعشرين من آذار العام 2011 فوجئ مشاهدو التلفزيون الرسمي السوري بتقارير لمراسليه صورت جوانب من احتفالات كرد بعيد النوروز في عدة مواقع بعضها في دمشق. وتضمنت الصور المنقولة عائلات خرجت إلى مناطق مشجرة لتقيم حفلات شواء في قلب الطبيعة.
كان ذلك بعد ستة أيام على أول مظاهرة خرجت من الجامع الأموي في دمشق، تلتها وقفة احتجاجية لأهالي المعتقلين السياسيين أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة، ثم تتابعت المظاهرات في كل من درعا وبانياس وحمص ومدن أخرى في الثامن عشر من آذار حين قتل أوائل شهداء الثورة برصاص أجهزة مخابرات نظام الأسد.
كان نقل التلفزيون السوري لمظاهر «احتفال» بعض الكرد بعيدهم، في إطار سياسة الإنكار الإعلامي للثورة الشعبية التي بدأت للتو، من خلال إظهار الأجواء طبيعية لا تشوبها شائبة مظاهرات كان واضحاً تأثرها بثورات الربيع العربي التي شملت تونس ومصر وليبيا واليمن.
وعلى رغم انضمام مبكر للكرد إلى المظاهرات الاحتجاجية في القامشلي وعامودا وكوباني، إضافة إلى مشاركات كرد العاصمة دمشق وحيثما وجدوا في مظاهرات المدن المختلفة، فقد كان الجو العام لدى كرد البلاد حذراً في هذا الانضمام، لاعتبارات عدة منها شعور قسم منهم بما اعتبروه خذلاناً لهم من العرب في انتفاضتهم في آذار 2004 ضد النظام، ومنها أنهم يبقون في موقع جماعة أقلية بصرف النظر عمن يحكم في دمشق، سواء نظام الأسد أو معارضيه الذين لم يطوروا مفاهيم سياسية تستوعب خصوصية كرد البلاد ومعاناتهم وتطلعاتهم. وعلى أي حال فقد اختارت الحركة السياسية الكردية التقليدية لنفسها ما يمكن تسميته بالخط الثالث بين النظام والمعارضة، ودعت في اجتماع لأحزابها عقد في أوائل شهر أيار إلى «الحوار» بينهما. أما حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، فلم يشارك في هذا الاجتماع وقيل إنه عقد صفقة سرية مع النظام أمنت له حرية الحركة في المناطق ذات الغالبية الكردية مقابل تحييد الكرد عن فعاليات الثورة السلمية.
الفئات الاجتماعية التي نأت بنفسها عن الثورة بشكل أو بآخر، أو ناهضتها بصورة عملية، لم تنج من مفاعيل الصراع وأذاه لتنضم إلى الكتلة الأساسية من السوريين المتضررين من بقاء النظام
تمكن «الاتحاد الديمقراطي» بمرور السنوات، من السيطرة على المشهد السياسي الكردي، وفرض سيطرته المسلحة على مختلف المناطق ذات الغالبية الكردية، وصولاً إلى إعلان الإدارة الذاتية فيها، وتحول تحت مسمى «قوات سوريا الديمقراطية» إلى رأس حربة التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، منذ العام 2014. وبذلك كان قد حقق عملياً مشروع «الخط الثالث» الذي فشلت الحركة السياسية الكردية في تحقيقها وكادت تمحى من المشهد السياسي.
سيستجلب هذا التطور تدخلاً عسكرياً تركياً متسلسلاً سيقلص مناطق الإدارة الذاتية وصولاً إلى حصرها في بعض مناطق الجزيرة.
الخلاصة أن الكرد الذين ظنوا أن نار الصراع الذي اشتعل في أغلب المناطق السورية لن يصل إليهم إذا لم ينحازوا إلى أحد طرفيه واختطوا طريقاً ثالثاً لأنفسهم، لم ينجوا منه في نهاية المطاف.
يمكن القول عن مسيحيي سوريا، بمن فيهم الأرمن، أنهم نأوا بأنفسهم عن الصراع، وربما كانوا عموماً أقرب إلى النظام، بالنظر إلى وضعهم كأقلية وتشتتهم الديموغرافي بين مختلف المناطق، لديهم مخاوف من التغيير، لكنهم لم يصطفوا أيضاً إلى جانب النظام بصورة فاعلة إلا في استثناءات قليلة. وسينتهي الأمر بكثيرين منهم إلى اللجوء والهجرة خارج الحدود ليزداد تقلصهم العددي كجماعة.
البيئات الموالية للنظام، وقفت معه بصورة فاعلة وقاتلت في صفوف قواته وميليشياته، مدفوعة بوهم أنه سيتمكن من القضاء على الثورة، ويعود الاستقرار في نهاية المطاف، فيكافئها النظام على موقفها. لكن ما حدث في الواقع كان مختلفاً تماماً عما حلموا به من الانتصار وعودة الاستقرار بعد التخلص من كل معارضي النظام السلميين والمسلحين على حد سواء. فقد تمزقت الأراضي السورية بين مجموعة دويلات أمر واقع، وصارت هناك قوات روسية وإيرانية في مناطق سيطرة النظام، وأخرى أمريكية وتركية في الشمال الشرقي والشمال الغربي، وبات النظام في عزلة دولية خانقة أدت إلى امتناع إعادة الإعمار وتدوير عجلة الاقتصاد، فضلاً عن عقوبات اقتصادية أمريكية زادت من هذا الاختناق، وما أدى إليه ذلك من أزمة معيشية مهولة تعاني منها أكثرية ساحقة من البيئة الموالية، تضاف إليها ظاهرة أمراء الحرب من قادة الميليشيات الذين حاربوا دفاعاً عن النظام، يقومون بعمليات إجرامية ضد السكان كالابتزاز والخطف بهدف الحصول على فدية وتجارة الكبتاغون. يزيد الوضع فظاعة وهم يرون العائلة الحاكمة، الرئيس وزوجته بصورة خاصة، يتأنقون في الظهور على وسائل الإعلام، لا يحسون بمعاناتهم، ولا يفتحون أي نافذة للأمل في المستقبل. وهكذا سيسلك كثيرون في هذه البيئات أيضاً مسالك اللجوء والهجرة إلى خارج المستنقع السوري، على نفس الدروب التي سبقهم إليها مناهضو النظام. وعليهم، فوق ذلك، أن يتظاهروا في تلك البلدان بأنهم غير موالين للنظام، مهددين بخطر تقديمهم إلى المحاكم في الدول الأوروبية.
الخلاصة أن الفئات الاجتماعية التي نأت بنفسها عن الثورة بشكل أو بآخر، أو ناهضتها بصورة عملية، لم تنج من مفاعيل الصراع وأذاه لتنضم إلى الكتلة الأساسية من السوريين المتضررين من بقاء النظام، في حين يصر هذا على البقاء على جثة سوريا كدولة والسوريين بمختلف اصطفافاتهم كبشر. فهل يشكل هذا الوضع حافزاً لإجماع سوري، كان عزيز المنال وأصبح محتملاً، قادر على إنجاز التغيير؟
عذراً التعليقات مغلقة