لطالما بدت الثورة السورية مغبونة بمقارنة مآلها مع التضحيات، وهي مقارنة تتعزز حصيلتها الباهظة مع الوقت. فمع انقضاء ثلاثة عشر عاماً على انطلاق الثورة لا تُرى في الأفق بوادر للتوقف عن دفع الثمن، ولا أفق ليحظى السوريون بتغيير إيجابي يجعل لتضحياتهم معنى ملموساً يتجاوز تعزية النفس بطريقة غيبية أو شبه غيبية، أي بمقولات من قبيل أن ثمن التضحيات لا بدّ أن يعود عليهم أو على أبنائهم مستقبلاً بالتغيير المنشود.
مظلومية الثورة، كما شاع التعبير عنها خلال السنوات الماضية، متعددة المستويات. تبدأ من الحديث عن تآمر بعض القوى الخارجية عليها، لتمرّ بخذلانها من قوى كانت موضع آمال، وصولاً إلى قوى إقليمية تاجرت بها ووجدت ضالّتها في انتهازيين ساهموا في تحويل سوريين من كافة الأطراف إلى مرتزقة. وبأخذ الاتهامات المتبادلة بين مَن يحسبون أنفسهم على الثورة، لا يضاهي حجم التضحيات سوى ذلك العدد المهول من الانتهازيين، لتنقسم اللوحة بينهم وبين المناضلين الراحلين الذين لم تلوّثهم المطامع.
ومما لا شك فيه أن أعداداً ضخمة جداً من السوريين عبّرت عن شجاعة كبرى في مواجهة قوات الأسد ومخابراته، وأن تلك الروح النضالية كانت استثنائية حقاً بقدر ما فيها من نُبل، وأصحابها كانوا يستحقون حصيلة أكثر واقعية من امتداح شجاعتهم وتضحياتهم. ويستحقون أفضل من ذلك الإنشاء الذي يتوعّد بالمزيد منها، وبالمزيد من توبيخ العالم الذي لا يأخذها في اعتباره.
وللحق فإن ظاهرة امتداح النضال وذمّ السياسة ليست ابنة الثورة، وهي موروثة من حقبة الأسد، أو حقبة البعث بأكملها. فطوال تلك الحقبة انتعشت الأيديولوجيات التي تمجّد النضال والتضحية، وتشيْطن السياسة على نحو أو آخر. في الأصل، وفي أساس الانقلاب العسكري أنه أتى على التضاد من الحياة السياسية في البلاد، مهما قيل عن تعثّرها. وكانت أيديولوجيا استمرارِه تقوم على منع السياسة الداخلية بتوجيه الاهتمام إلى عدو خارجي، أو إلى أهداف خارجية يتطلب تحقيقها وجود مناضلين لا سياسيين، وإن بقي النضال في حيّز الإنشاء واكتنف الحديثَ عنه كثيرٌ من الرياء والنفاق.
ولم تقتصر هذه الظاهرة على الأسد، فكانت سمة إجبارية لمعارضيه أيضاً. ومن المنطقي في بلد تنعدم فيه السياسة، ويحكمه العسكر والمخابرات، أن تصبح المعارضة أيضاً مشروعاً نضالياً لا سياسياً. فالحوار مع الخصم “محتكِر السلطة” غير وارد من جهته، والاحتيال على القمع بأي نشاط سياسي شبه مستحيل مع وفرة أجهزة المخابرات. هذا ما جعل التنظيمات المعارضة بمثابة تجمّعات لأصحاب رأي أيديولوجي لا أكثر، من دون برامج سياسية حقيقية، ليرتد ذلك على التجربة الداخلية للعديد منها بافتقارها إلى الديموقراطية كمظهر من مظاهر السياسة.
هذا الإرث وجد طريقه إلى الثورة بسهولة، وتولّى القمع الشديد المبكر تعزيزَه من جهة انعدام أفق الحوار والمساومة بين الثورة والأسد، بما أن الأخير كان واضحاً في اعتماد لغة العنف فقط. من هنا صار إسقاط النظام كأنه شرط ضروري للوصول إلى السياسة، وإسقاط النظام ضمن الواقع المعروف يتطلب وجود مناضلين لا سياسيين. بل صارت السياسة نفسها موضع شبهة، لأنها توحي بما هو أقل جذرية من مطلب إسقاط النظام، وبهذا المعنى اكتسب النضال قيمة أخلاقية لا خلاف فيها، بينما اكتسبت السياسة سمعة سيئة تُضاف إلى الرصيد النضالي القديم الذي لم يقصّر في احتقار السياسة.
في الواقع استُخدِم شعار إسقاط النظام كهدف نضالي على الطريقة البعثية والأسدية ذاتها، أي أنه استُخدِم بهدف منع السياسة ضمن مجتمع الثورة، ووفق النموذج القديم الذي يضع هدفاً نضالياً يحول دون السياسة. الحجة في ذلك أن السياسة غير ممكنة مع بقاء الأسد، وأن كل كلام عما كان يُسمّى “اليوم التالي” فيه مصادرة لآراء السوريين التي يُفترض أن تُترجَم في جو ديموقراطي حرّ بعد سقوط الأسد. بهذا المعنى كانت مطلوباً من التنظيمات التي تأسست لتمثيل الثورة أن تمثّل هدفاً نضالياً محدداً، وهذا الهدف هو المعيار شبه الوحيد لتقييم أدائها.
بموجب التصوّر نفسه، لم يكن هناك من مستوى سياسي للثورة، ولم يكن وجوده مطلوباً، والمستوى النضالي المحدَّد المعلوم لا يحتاج كفاءات سياسية، فضلاً عن شحّها الشديد في بلد بقي لعقود ممنوعاً من السياسة. لا يُستبعد أن يجد انتهازيون فرصة مُثلى للتسلّق على هدف نضالي لا يتطلب كفاءة لتكرار شعاراته، بينما يجدون أنفسهم غير مطالبين باستحقاقات سياسية حقيقية. في المحصلة، هناك هيئات معارضة لا يُعلم إلا القليل القليل عن صندوقها الأسود، لأن قادتها لا يرون أنفسهم مطالبين بكشوفات حساب لجمهور الثورة الذين يدّعون تمثيله، بل بتقديمها لعموم السوريين على اختلاف مواقعهم.
ليس الأمر فقط أن معظم هذه الهيئات صار مرتهناً لقوى خارجية؛ الأصل أنه لم تحدث ضمنها عملية سياسية ديموقراطية منذ إنشائها، وما يُقال عن تعسّر ذلك هو بمعظمه تهرّب من السياسة لا أكثر. والقول أن الكلمة صارت للعسكر والدول الداعمة لهم فيه حقّ يُراد به باطل، فالصحيح أن العسكرة منذ بدايتها كانت بعيدة عن أي إشراف من هيئات المعارضة، وعندما لم تقدّم هذه الهيئات تصورات سياسية مواكبة لما يحدث فهي قد أعفت العسكر في الحد الأدنى من وجود سلطة معنوية رقابية، وهذا بدوره كما نعلم يتطلب أن تكون تلك السلطة سياسية ديموقراطية، بمعنى أن تكون مدعومة حقاً بجمهور واسع.
ما كان مُفتقَداً داخل هيئات المعارضة ولدى جمهور الثورة وجد طريقه إلى العلاقة بقوى الخارج، والعلاقة ليست دائماً على نهج التبعية أو الارتزاق. ففي الواقع، وفي أحسن حالة لتلك الهيئات، لم تمارِس السياسة الخارجية سوى على المستوى المعلن الذي يمكن تلخيصه بأحقيّة السوريين في الثورة على الأسد. وعلى هذا الصعيد كان ثمة وهم “حقيقي أو مفتعَل” قائم على أن القوى المؤثّرة لا تعرف جيداً معاناة السوريين، وعلى أنه يمكن إحراجها بتلك المعاناة وبالمزيد من التضحيات وكأنها ليست صاحبة سوابق في عدم الاكتراث بضحايا أنظمة دموية ومجازر كبرى هنا وهناك.
إن أفضل تعبير عن أداء المعارضة السياسي هو ما حدث من انقطاع تام عن حلفاء للأسد مثل روسيا والصين، بما لهما من تأثير في مجلس الأمن وخارجه، ومرور العلاقة مع أمريكا عبر راعٍ إقليمي تحدده واشنطن. مرة أخرى، بصرف النظر عن الاتهامات الموجَّهة إليها لجهة التبعية والارتزاق: هي أولاً معارضة خارج السياسة، لذا لم تكن الممارسة السياسية من طبعها، وليس لديها مشروع سياسي متكامل تطرحه على الخصوم والأصدقاء.
غياب التراكم السياسي يجعل السؤال أشبه بالسخرية عن الخبرة المكتسبة طوال السنوات الفائتة، أو عن الفشل الذي يُستفاد منه! وليس الآن، بعد ثلاثة عشر عاماً، بل منذ سنوات طويلة صار الشعار النضالي مثيراً للسخرية، لابتعاده عن الواقع من جهة وللطريقة التي ابتُذل فيها من جهة أخرى. ربما فقط لم يفُت الأوان على تجريب السياسة، بدءاً من التفكير فيها كممر إلزامي وحيد للتعايش بين السوريين، ولإعطاء مضمون حقيقي متواضع وغير مضلِّل لكلمة وطن. السياسة ليست بالضرورة “كما يفهمها سدنة النضال” تطبيعاً مع الأسد أو مع فكرة بقائه، إلا أنها إلزامية للتطبيع بين السوريين، الآن أو مستقبلاً.
عذراً التعليقات مغلقة