لمناسبة رحيله في مستهل هذا العام، برز اسم المعارض الشهير رياض الترك كأنه صاحب تأثير أساسي في الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011، وفي مساراتها اللاحقة على الانطلاقة الأولى. ساهم محبّو الراحل في إبراز حضوره، وكان هناك التقاء نسبي مع خصومه الذين صوّبوا سهامه على ذلك الحضور، وتكفّلت أحاديث منقولة عن الرجل في دعم الطرفين لجهة استخدامه ضمير المتكلم الدال على الفاعلين في القول مثلاً (فشلنا لأننا…)، ما يوحي لمن يشاء بأنه كان في موقع القائد المدبِّر.
هناك شبه إجماع على احترام شجاعة الترك الذي اعتُقل أربع مرات في ثلاثة عهود سورية مختلفة، بدءاً من عهد الشيشكلي مروراً بعهد الوحدة مع مصر وصولاً إلى عهد الأسدين. لكن ذلك كله لم يكن معروفاً على نطاق واسع، بما فيه تجربة انشقاقه عن الحزب الشيوعي واعتقال أعضاء التنظيم الذي كان يقوده في السبعينات، وهو أيضاً حال الخلاف والخصومة بين رابطة “ثم حزب” العمل والحزب الشيوعي-المكتب السياسي بوصفهما التنظيمين اليساريين المعارضين في تلك الحقبة. يُذكر أنه جرت ملاحقة أعضاء التنظيمين الماركسيين السريين واعتقالهم، وفي النصف الثاني من الثمانينات كانت المخابرات قد أجهزت عليهما.
من المؤسف بشدة أن آلاف الشابات والشبان قضوا سنوات طويلة جداً في الاعتقال بينما النسبة العظمى من السوريين لم تكن على دراية بمعاناتهم، وهذا يعود في جانب مهم منه إلى طبيعة العمل السياسي السري في ظل نظام شديد القمعية. وحتى تنظيم الإخوان المسلمين كان معروفاً بعمومية شديدة على خلفية المواجهة المسلحة بينه وبين السلطة، وكان أيضاً قد تعرّض لضربة قاصمة تكفّلت بردع المتعاطفين معه عن أية فاعلية علنية أو سرّية. في المحصلة نتحدث عن أجيال هرم بعضها الآن، وهؤلاء إما كانوا في السبعينات بعيدين عن العمل السياسي أو عن الاهتمام السياسي برمته، يليهم أولئك الذين تفتح وعيهم أو ولدوا بدءاً من الثمانينات.
لم تحدث مراجعات نقدية مؤثرة للفترة الممتدة بين السبعينات ومنتصف الثمانينات، والقليل المتداول لا يزيد عن نظيره المتداول عن سنوات الاستقلال الأولى أو سنوات الوحدة مع مصر. بهذا المعنى كان احترام شجاعة معارضي الأسد لا يتعدى دائرة ضيقة جداً على دراية بهم، ولولا تصريح الترك لقناة الجزيرة تعقيباً على موت حافظ الأسد، وقوله “مات الديكتاتور”، لبقي مجهولاً كما كان من قبل، وكما طواه النسيان لدى العموم إثر اعتقاله بعد ذلك التصريح.
بدءاً من آذار 2011، وبتشجيع من موجة الربيع العربي، نزل عشرات ثم مئات الألوف إلى الشوارع مطالبين بالحريات أولاً، ومطالبين بإسقاط النظام بعدما بالغ في إطلاق الرصاص على المتظاهرين. المعطيات المتوفرة تجعلنا نجزم بضعف تأثير ما تبقى من هياكل معارضة ومن معارضين سابقين على الحراك السوري آنذاك، رغم مشاركة معظمهم كأفراد لا يُشكّ في انحيازهم إلى الشارع. كانت هذه ثورة أجيال جديدة لا يعرف معظمها شيئاً عن النضالات السياسية السابقة، ولا يسيء إلى تلك النضالات القولُ أن الأسماء التي برزت في ذلك الطور ليست ذات ماضٍ سياسي، والتمحيص في الأسماء التي نالت مكانة واسعة يقول أن أصحابها كانوا بعيدين عن التحزّب.
لم يعمر طويلاً اجتماع معارضي الأمس “ومنهم أنصار للترك” تحت مظلة هيئة التنسيق الوطنية كأول هيئة معارضة تتأسس بعد الثورة، وكانت الأحداث تتسارع على مستويين: العامل الخارجي الذي راح يقوى والتسلح الذي صار أمراً واقعاً. أي أن الواقع كان يسير بخلاف الشعارات التي سترفعها الهيئة، وسيتبناها “مؤقتاً وبصياغة أقل صلابة” المجلس الوطني الذي تأسس في خريف 2011 وضمّ ممثلين عن الإخوان المسلمين وإعلان دمشق وربيع دمشق بالإضافة إلى العديد من المنظمات.
العودة إلى الشهور الأولى تفيد بأن المجلس لم يتبنَّ الخيار العسكري، وكان يطالب بدعم دولي سياسي وحقوقي لا يتعارض مع مفهوم السيادة. ثم حتى عندما تبنى المجلس الخيار العسكري لم يكن له تأثير على الفصائل الموجودة في الميدان أصلاً، والتي تنال الدعم الخارجي مباشرة بمعزل عن أي مستوى سياسي. مع التذكير بأن تأسيس المجلس الوطني لم يكن بعيداً عن إيحاء الخارج، أو بعيداً عن الوعود بأن يُعامل كممثّل للثورة.
بالنظر إلى ما يُشاع عن تأثير قوي للترك، من خلال حزبه أو من خلال مجموعة إعلان دمشق، يمكن القول أنه فشل مع هيئة التنسيق في تأسيس هيئة سياسية جامعة، ثم فشل مع مجموعات المجلس الوطني وعلى رأسها الإخوان في جعل المجلس هيئة تمثيلية سورية ذات صدقية، ليُتوَّج الفشل برغبة دولية تمخّض عنها الائتلاف الذي لن يكون حظه أفضل داخلياً وخارجياً.
الإعلاء من دور الترك، أو التبخيس المطلق من حضوره، يستندان إلى التقديرات الشخصية أكثر من الوقائع ذاتها. افتقار السوريين إلى معلومات لها طبيعة توثيقية هو واحد من الأسباب الداعمة للتكهنات ونقيضها، والسنوات الدموية الماضية تسببت باليأس المطلق من السياسيين والعسكر لكن لم يُكشف عن وثائق ضرورية للاقتراب من الرواية الحقيقية لما حدث في هيئات المعارضة. نعني بذلك الوثائق الداخلية لتلك الهيئات، ومحاضر المباحثات مع مسؤولين دوليين، وهي يجب أن تكون ملكاً للسوريين بصرف النظر عن مواقعهم.
وعدم الكشف عن الوثائق سهّل دائماً أمرين متلازمين؛ تنزيه الذات ورمي مسؤولية الفشل على الآخرين، وفي أحسن الأحوال إعلان تحمّل مسؤولية مبهمة عن الفشل من دون توضيح دقيق لحجمها وأبعادها. لكن عدم توفّر المعلومات المطلوبة لا يمنع الشروع في نقد يستهدف تقصّي أسباب الفشل، لا التكسّب عليه. نفترض هنا “كما هي القناعة العامة” أن الثورة لم تكن ثورة رياض الترك ليكون مسؤولاً أكبر عن نجاحها أو فشلها، وهذا ينطبق بدرجات على كثر غيره، وفشل أي قيادي يُفترض ألا يعفي من المسؤولية الجماعية أولئك الذين لم يقدّموا بدائل منافسة أوفر حظاً في النجاح.
لقد قدّم رياض الترك أمثولة لا ينفرد بهما بين ألوف إلا من حيث حياته السياسية المديدة، الوجه الأول لها هي الشجاعة في مواجهة الطغيان والوجه الثاني تلخّصه حصيلة سياسية بائسة. هذه التراجيديا جديرة بالتأمّل لتعبيرها جيداً عن حال السوريين في السنوات الفائتة، وعن حاجتهم إلى نقد يتوخّى قلب تلك الأمثولة رأساً على عقب.
عذراً التعليقات مغلقة