ليست فلسطين وقطاع غزّة أمام واقع سياسي واستراتيجي آخذ بالتشكّل، بل المنطقة العربية بمجملها باتت، ومن دون وعي من نخبها وغالبية صنّاع القرار فيها، على عتبة تحوّلات خطيرة، فرضتها حالة السيولة الأمنية وارتباك التصوّرات السياسية التي سادت المنطقة في العقد الأخير.
إرهاصات عديدة كانت قد كشفت عنها السنوات السابقة، بدءا من صراع القوى الإقليمية على المنطقة العربية، ثم دخول المنطقة في قلب المشاريع الجيوسياسية المتصارعة، والتي كانت في قلبها المشاريع الروسية والإيرانية والصينية، ثم الرد الأميركي بمشروع الممرّ الهندي، وليس انتهاء بالمشروع الإسرائيلي القاضي بتهجير سكّان غزّة.
يأخذ هذا التشكّل سبغة تدرّجية، وتقوم بإدارته الفواعل الدولية والإقليمية، في إطار سعيها إلى تأمين مساحات استراتيجية تعزّز قدرتها التفاوضية في عالم ما بعد القطبية الأحادية، حيث تسعى الأطراف الواعية لهذا التحوّل إلى الاستزادة بأوراق قوّة تسمح باعتمادها، أو توصيفها، أطرافا فاعلة لنظام دولي قد تحكم قواعده العالم عقودا طويلة، وبالتالي، تتحكّم بغلاله ومصائر شعوبه طوال تلك المرحلة.
ويبدو أن إسرائيل بدأت استثمار اللحظة الدولية السائلة، والتي غالبا ما يجري وصفها في أدبيات العلاقات الدولية، بالمرحلة الانتقالية بين نظامين وعالمين، حيث الفواعل الدولية منهمكة في ترتيبات مشاريعها، فيما الأطراف المستهدفة إما مستنزفة بفعل الصراعات أو متخوّفة من شمولها في إطار تلك المشاريع. لذا تكون اشتراطاتها ضعيفة مقابل استعداد مرتفع لقبول الانضواء في ظل أي مشروع يحقّق لها مساحة، تراها معقولة من الأمان.
تعمل إسرائيل على التخفّف من أكبر قدرٍ ممكنٍ من الفلسطينيين، ومن جميع مناطق فلسطين
وتسعى إسرائيل لدخول اللعبة عبر استراتيجية تقوم على دمج خيارين متناقضين، لكنهما في الوقت نفسه، يحققان لها، في حال تحقّقهما فائضا من القوّة الاستراتيجية يجعلانها طرفا مقرّرا، إن لم يكن أقوى الأطراف المقرّرة والفاعلة في النظام الدولي المنتظر. الأول: التخفّف من أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين، ومن جميع مناطق فلسطين. أدواتها في تحقيق هذا الخيار واضحة في الحرب على غزّة وتسليح المستوطنين في الضفة الغربية، والتضييق إلى أبعد الحدود على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. الثاني: الاندماج في النظام الشرق أوسطي، من خلال توسيع دائرة التفاعل مع الأنظمة العربية وتشبيك المصالح والتحوّل إلى لاعب عضوي مرتبط بشدّة ببنية الإقليم، بحيث يصبح بقاؤه خارج تركيبة الإقليم عنصرا مهدّدا لبقائه واستمرارية تفاعلاته. بالإضافة إلى أنه فرصة مضيّعة وخسارة من رصيد الإقليم في لعبة التوازنات الدولية، وبالطبع الطموح الإسرائيلي لا يقبل بأقلّ من دور قائد ضمن البنية الإقليمية.
لكن هذا التحوّل، في حال تحقّقه، ولا شيء يشي بعدم اكتمال سيناريوهاته، قد يُفرز استجابات لم تلاحظها مفكّرات اللاعبين الإقليميين والدوليين. وبالقطع، ستؤدّي إلى نشوء ديناميات جديدة في العالم العربي، تماما مثل تلك التحوّلات التي شهدتها البيئة العربية بعد نكبة فلسطين سنة 1948، والتي نتج عنها تغيير للطبقات الحاكمة في أكثر البلدان العربية وظهور موجة المدّ القومي، ثم موجة المد الإسلامي بداية من سبعينيات القرن الماضي، بعد نكسة عام 1967، ثم بروز التطرّف بدرجة كبيرة بعد احتلال العراق سنة 2003.
ربما يجادل بعضهم بأن موجة التحوّلات في العالم العربي انتهت مع نجاح الثورات المضادّة في إعادة ضبط المسارات العربية لمصلحتها، والتحكّم تاليا بمخرجات السياسة والاجتماع وتوجهاتهما في العالم العربي، بل أصبح بقاء النخب الحاكمة المحدّد الأساسي لأي تحرّك شعبي. وفي ظلّ ذلك، تراجعت سقوف الشعوب العربية إلى حد الحصول على الأمان، الذي يعني الأمان من جبروت الحاكم وطغيانه بالدرجة الأولى، أما قوى الاعتراض المدني فلم تعد مرئية على مساحة العالم العربي.
تحتاج المشاريع الجيوسياسية أدوات جديدة لتحقّق أقصى العوائد الممكنة
مثل هذا التوصيف الإستاتيكي والذي يحلّل الأمور انطلاقا من فرضيّة أن استمرار الأوضاع الراهنة هو الحقيقة المؤكّدة، ولا توجد أدنى مؤشّرات على إمكانية تغييرها أو حتى خدشها في المديين، القريب والمتوسط، وكل ما دونها ليس سوى بيع للأوهام، توصيف ليس دقيقا لأنه لا يأخذ في الاعتبار قضية مهمة، أن التحولات يُغذّي بعضها بعضا، وأن الديناميّات تتفاعل بطريقة يصعب التحكم بها، كما أن الأحداث ليس لها اتجاه واحد على الدوام.
المؤكّد أن نتائج حرب غزّة التي يتضح أنها تسير صوب سيناريوهات، ما زال كثيرون منّا يحاولون حتى عدم تصوّرها، فضلا عن النتائج الكارثية التي ستخلّفها الحرب إذا استمرّت على الإيقاع نفسه مدّةً أطول، ستكون لها تفاعلات خطيرة في العالم العربي. وتتخوّف غالبية النخب الحاكمة من تلك التفاعلات، وتحاول بطرق عديدة قمع إمكانية تشكّلها عبر إظهار تعاطفها مع الطرف الفلسطيني. لكن، هل يكفي هذا النوع من التحوّطات لصد طوفان التحوّلات المحتملة؟ وهل يكفي أن الأنظمة الحاكمة، وبعد الربيع العربي، أدخلت الجيوش إلى قفصها بعدما أعادت هيكلتها ووضعتها تحت رقابة أجهزة أمنية لتنام قريرة العين؟
الأهم من ذلك أن التحوّلات عندما تقع لا تكون انتقائية، بمعنى أنها ستحافظ على مكان النخب مقابل تغيير البنى الاجتماعية والأيديولوجية. وتحتاج المشاريع الجيوسياسية أدوات جديدة لتحقّق أقصى العوائد الممكنة. وبالتالي، من ينتظر من مشاريع الآخرين أن تحافظ له على وضعيته واهم، ويبدو أن غالبية الأنظمة العربية التي لم تستعد لمثل هذه التطوّرات تقع في هذه الخانة، هل كان الملك فاروق يتصوّر بعد احتلال فلسطين، غير أنه باق على العرش إلى أبد الآبدين؟
عذراً التعليقات مغلقة