أكملت السويداء أمس مئة يوم على انطلاق انتفاضتها، وعلى مظاهراتها التي لم تتوقف خلال أيام الأسابيع، سواء في الأرياف أو في المدينة. وكانت هذه مناسبة للتعبير عن التصميم على الاستمرار، وللتأكيد على مطالب الانتفاضة التي لم تتراجع أو تتبدل، ولم يزُل أي سبب من أسبابها. ومن المرجح أن البيان الذي أصدره الشيخ حكمت الهجري، وإن لم يُشر إلى أية مناسبة، هو أيضاً من باب دعم أولئك المتظاهرين الصامدين، والتأكيد على الاستمرار، خاصة أنه أتى بلا جديد في مضمونه وبنبرةٍ هادئة تخلو من الحماس.
من دون أن نبخس المتظاهرات والمتظاهرين الشجعان حقهم، يمكن القول أن شحنة التحدي غابت عن هتافات صار تكرارها بحكم العادة مثل “صاح الصايح وطبّ الأسد خوف”، فالمواجهة المرتقبة لم تحدث، والأسد مرتاح من هذه الجهة أكثر مما كان عليه قبل مئة يوم. فحينئذ كانت لديه مخاوف من تمدد الاحتجاجات إلى مدن أخرى، بل كانت لديه خشية من وصولها إلى الساحل وانتشارها فيه، وهو السيناريو الذي استطاعت مخابراته تلافيه هناك بمزيد من الضغط وباعتقال عشرات الناشطين.
عدم انتشار الاحتجاجات جعل الأسد غير مستعجل أو مضطر إلى مواجهة السويداء مباشرة، فاكتفى بمحاولات التسلل إلى نسيجها الاجتماعي-المذهبي، على أمل إحداث اقتتال داخلي ضمن المجتمع الدرزي. إلا أن الأخير أظهر تماسكاً ليس بالجديد عليه في مثل هذه المواجهات، وذاكرة أبنائه فيها الكثير من الوقائع و”ربما المبالغات التعبوية” التي تُعلي من روح الجماعة، ومن بطولاتها كنتيجة لتلك الوشائج. ومن شبه المؤكد أن الأسد يخشى حقاً من قوة هذه الأواصر، وهذا ما ساهم في ردعه عن استخدام العنف الذي لن يضمن عواقبه في السويداء، أو حتى في أماكن من محيط دمشق تقطنها غالبية درزية.
أيضاً، وهذا لا يخلو من دلالة، لم يلجأ الأسد إلى سياسة العقاب الاقتصادي الجماعي، بخلاف نهجه المعروف منذ انطلاق الثورة عام 2011، حين عمد مبكراً إلى حصار المناطق الثائرة ومعاقبة أهاليها بقطع الكهرباء والماء وكافة الخدمات الأخرى، بما فيها قطع الطحين عن الأفران. على هذا الصعيد كأنه اكتفى بمبدأ “لا عصا ولا جزرة”، فهو لم يحاول رشوة أهالي السويداء مثلاً بساعات من وصول الكهرباء تزيد عن محافظات أخرى، أو بكميات إضافية تمييزية من الوقود خاصة مع بدء موسم البرد ودنو فصل الشتاء.
هناك في عموم مناطق سيطرة الأسد أزمة وقود وكهرباء، وفي بعض الأحيان والأمكنة لا تزيد فترة وصول الكهرباء عن ساعتين يومياً. وفي دلالة على عدم وجود عصا مرفوعة ضد السويداء، تنقل صفحة “السويداء 24” قبل يومين خبراً متناقضاً عن موافقة مجلس الوزراء ورفض وزير النفط زيادة مخصصات المحافظة من مازوت التدفئة، بناءً على طلب المحافظ الذي يبدو من تفاصيل الخبر أنه يمارس مهمته على نحو جيد. في كل الأحوال، لا شكوى من عقاب جماعي تمييزي، وحتى الحديث عن الفساد وتجار السوق السوداء لا اختلاف فيه عن باقي المحافظات سلباً أو إيجاباً.
صحيح أن السويداء لم ترفع أصلاً شعار القطيعة مع المؤسسات العامة الواقعة تحت سيطرة الأسد، إلا أن الأخير لم يبادر أيضاً إلى التخلّي المطلق عن مسؤولياته بحكم تلك السيطرة. وبالمجمل تكون السويداء قد حققت هدف التخلص من حزب البعث ومقراته المنتشرة في كل البلدات والقرى، ومن أفرع المخابرات ومفارزها في كافة أنحاء المحافظة. وهو الإنجاز الذي يبرر الحديث عن مئة يوم من الحرية ذاق المنتفضون طعمها بتلهف. جدير بالذكر أن مطلب التخلص من البعث والمخابرات كان ضمن أولوية المتظاهرين عام 2011، ولو تحقق لهم لكان من المرجَّح ذهاب البلاد في اتجاه مختلف عما حدث.
هي مئة يوم من الحرية لا غير، وهكذا لا نبخس الحرية حقها باعتبارها أفضل المتاح حالياً. لكن تجربة الأيام المئة تقول أن الحرية هي هدف ووسيلة في آن، فالذي زال هو القمع بأدواته المسيطرة على السويداء “كما في سواها” منذ ستة عقود، وزواله يُفترض أن يكون عتبة أولى ضرورية للشروع في استحقاق ممارسة الحرية السياسية متعيّنة بالديموقراطية السياسية، وصولاً إلى ديموقراطية إدارة الاقتصاد وتوزيع الموارد والخدمات.
بعبارة أخرى، لقد حققت السويداء أقصى ما تستطيع تحقيقه منفردةً، إذا استثنينا ما لم تطالب أصلاً به من قطيعة مع باقي المناطق أو حكم ذاتي. التقدُّم بخطوة أو خطوات إضافية يتطلب أفقاً سورياً غير متوفر الآن، وأغلب الظن أنه أبعد مما كان عليه قبل مئة يوم، إذ يجب ألا ننسى انشغال العالم كله في الخمسين يوم الأخيرة بالحدث الفلسطيني في غزة. والأفق السوري المقصود ليس ذلك المحمول على شعارات الوطنية السورية، حيث صارت تُفهَم بوصفها ائتلافاً بين جماعات دينية وعرقية أظهرت شقاقات وانقسامات عميقة؛ المقصود بذلك هو الأفق الواقعي الضروري ليكون للحرية تجسيد ديموقراطي.
في الصيغة الحالية، المستقرة تقريباً منذ مئة يوم، يمكن الحديث عن تعادل بين الأسد والسويداء. إذ حققت الانتفاضة ما أشرنا إليه، وجعلت من استمرارها مكسباً يعزّ التفريط به، فسجّلت انتصاراً على الأسد الذي لم يقبل في تجارب أخرى بأقل من السيطرة المطلقة. وما يجدر ملاحظته أنه هو أيضاً حقق انتصاراً بحرمان السويداء من مداها الحيوي السوري، وعمل بنجاح على تكريس ما يمكن تسميته “الاستثناء الدرزي”، وهو استثناء يتضمن عدم استخدام العنف ضد السويداء طالما بقيت في موقع الاستثناء ولم تنتشر عدوى حريتها.
على ذلك يكون استمرار الوضع على حاله هو الخيار الوحيد المتاح، وإن لم يبرز أفق مبشّر أمامه. أما الرهان الذي يبقى مؤجّلاً ومنتظَراً فهو وجود النوايا والقدرة على إخراج السويداء من “الاستثناء الدرزي”؛ هذا سيكون بمثابة حماية لها من الاستثناء الملغوم، والذي يشتهي صانعه الانقضاضَ عليه متى اطمأن إلى العواقب. بأيدي سوريين آخرين أن ينزعوا الاستثناء الحالي عن أصحابه، أو أن يوسّعوه بالانضمام إليه. ربما لا يكون التوقيت مواتياً الآن، وربما لا يكون ثمة توقيت ملائم إلا عندما يصبح واقعاً.
عذراً التعليقات مغلقة